السبت، 19 سبتمبر 2015


السّيل العظيم و مصائب بعلبك

بقلم: حسين أحمد سليم

حدّثنا التّاريخ على ذمّته، ناقلا لنا على لسان بعض المؤرّخين، توصيفا للسّيل العظيم، الذي إجتاح مدينة الشّمس بعلبك، و الذي حدث في يوم الثّلاثاء الواقع في السّابع و العشرين لشهر صفر من سنة 717 للهجرة، الموافق للعاشر من شهر أيّار من سنة 1318 للميلاد...

في هذا التّاريخ، المشار إليه، كان المصاب الأليم في مدينة الشّمس بعلبك، بسيل هائل و عظيم، أتى على أحياء المدينة من الجهة الشّرقيّة، فخرّب ما في المدينة، و أهلك من أهلها عددا غفيرا، و تراكم على السّور فدفعه، و طفحت المياه على المدينة، فخرّبت منها ما ينيف على 1500 بيت، و دخلت الجامع، فخرّبت بعض جدرانه، و رمت المنبر، و بلغت إلى رؤوس العمد، و وجدوا فيه الشّيخ علي بن الحريري غريقا و معه جماعة... ثمّ إندفعت بقوّة نحو البساتين، فأتلفت فيها شيئا كثيرا، و لم يزل المكان، الذي أتت منه المياه، يدعى " وادي السّيل " إلى الآن...

و كان الوقت بين الظّهر و العصر، في اليوم السّابع و العشرين من شهر صفر لسنة 717 للهجرة، حيث أرسل الله سبحانه و تعالى، سحابة عظيمة من الغيوم الدّاكنة و الملبّدة، حجبت السّماء و نور الشّمس، و كانت ذات رعد قاصف، و برق وامض، و مطر غزير، و بّرَد كثيف...

فسالت من هذه العاصفة القاصفة، المياه العظيمة في الأودية الواقعة شرق بعلبك، و حملت بجريانها الهادر المخيف، ما مرّت عليه من الصّخور و الحجار، و الكثير من الأشجار إقتلعتها، و كروم العنب التي خرّبتها و جرفتها، و غيره من أتى بدرب مجراها...

و ما أن وصلت تخوم  المدينة من الشّرق، حتّى إفترقت على البلد فرقتين، فرقة على النّاحية الشّرقيّة، إلى جهة الجنوب (القبلة)... سالت حتّى إنتهت إلى النّهر، و إجتمعت ببحيرة عظيمة على السّور، حتّى كادت تبلغ شرفاته إرتفاعا... و تزايدت عظمة و إفزاعا، فلطف الله و ثبّت السّور ، و تصرّفت مع جريان الماء، و لم يحدث بحمد الله تعالى كثير أمر...

و الفرقة الثّانية من السّيل، تدفّقت بقوّة إلى البلد، ما بين باب دمشق و باب نحلة، شرقي المدينة إلى جهة الشّمال... و إجتمعت هناك على السّور، و ثقلت عليه، فخرقته بمساحة طويلة تجاوزت الأربعين ذراعا، مع أنّه محكم البنيان، مشيّد الأركان، و حصل ما يليه من صدوع، مع أنّ سمكه خمسة أذرع...

و دخلت مياه السّيل العظيمة البلد، و طغت المياه، فأخذت برجا عرضه من كلّ جانب، خمسة عشر ذراعا، حملته على حاله، لم ينتقض، حتّى مرّ فسحة عظيمة نحو خمسماية ذراع من الأرض...

و أخذ السّيل في البلد إلى جهة الغرب جاريا بعنف، فما مرّ على شيء في طريقه إلاّ وجعله خرابا و خاويا، و لا شاخص من البناء، و لا غيره، إلاّ و جعله للأرض مساويا... فأخرب المساكن و البيوت، و أذهب الأموال، و غرّق الرّجال، و الحريم، و الأطفال، و أثكل الأمّهات و الآباء، و أيّم الأزواج، و يتّم الأبناء...

ثمّ لم يزل يندفع بقوّة، حتّى دخل الجامع الأعظم و المدرسة التي تليه، فإنجزر به حتّى كاد يبلغ العمد بتناهيه، فأتلف ما فيه و أخرب و غرّق، و أزعج القلوب و أقلق... و إنفجر على الجدار الغربي من الجامع فهدمه...

و أخذ ما مرّ عليه من البنيان، حتّى بلغ خندق القلعة، فخرق من سور البلد الغربي الملاصق لها مقدار خمسة و عشرين ذراعا، و خرج من البلد، فما مرّ على بستان إلاّ و أجابته أشجاره سراعا، و ما قيل يا أرض ماءكِ إبلعي، و يا سماء إقلعي... حتّى صارت ذوو المساكن و البيوت على الطّرقات، و أصحاب الأموال يستحقّون الصّدقات، و تهدّمت المساجد و تعطّلت الصّلوات...

و قد جرى في هذا اليوم الغريب العجيب، ما لا يُحصى و لا يُعدّ، و من الغرائب ما لا يُوصف و لا يُحدّ... و قد أخبرت الثّقات، أنّه نزل من السّماء عمودٌ عظيمٌ من نار في أوائل السّيل، و رؤي من الدّخان، و سُمع من الصّرخات في الأكوان، ما يُضعف في الحيل، و يزيد في الويل...

و فيسنة 803 للهجرة الموافق لسنة 1401 للميلاد، إبتليت مدينة بعلبك بمصاب آخر، فبعد أن صبّ الطّاغية تيمورلنك ويلاته على حلب قصد دمشق، فمرّ في بعلبك، و لم يلتفت لأهلها الذين خرجوا إليه طالبين العفو و السّلام، فبعث بجنده، فنهبوا المدينة و خرّبوها...

و في سنة 922 للهجرة الموافق لسنة 1516 للميلاد، صارت مدينة بعلبك إلى ساكن الجنان، السّلطان سليم الأوّل العثماني، بعد أن فتح سوريا، و نزع يد سلاطين مصر من المماليك عنها...

ثمّ دانت بعلبك و قراها لحكم الأمراء بني الحرفوش، الذين كانوا من البأس و السّطوة و الفروسيّة في مكان عظيم... أستوطنوا المدينة، و كانوا من أعظم الأعيان فيها، إلى أن تيسّر لهم الإستقلال في المدينة و أقاليمها، و بلاد البقاع في أواخر حكم سلاطين مصر من المماليك، فسادوا و حكموا بعدالة في البداية، و كان لهم بصمات مميّزة في البناء و الأدب و الفقه و نشر السّلام و الحقّ بين النّاس... ثمّ تسلط بعضهم على الرّعيّة و أموالها و ممتلكاتها، فإقتطعةها خمسماية عام، فظلموا و عتوا في بعض النّواحي، فساء حالها و تقطّعت أوصالها، لحين كُفّت أياديهم عن المدينة و توابعها...

و في سنة 1664 للميلاد، و في سنة 1759 للميلاد، كانت زلزلة عظيمة، هدمت جانبا كبيرا من القلعة في بعلبك...

و في 30 أيلول من سنة 1901 للميلاد، هطل الغيث مدرارا في بعلبك، و كان سيل عرم، خرّب سوقها، و قوّض عدّة من بيوتها، و هلك فيه البعض من النّاس، و الكثير نفق من المواشي،...

و كانت بعلبك على جانب عظيم فيما مضى، ثمّ وصلت إلى درجة من الحطّة و الدّعة، حيث أنّ الأقدار جارت عليها بالمصائب الطّبيعيّة، و حاقها الظّلم من الحكّام الذي توالوا عليها، و الذي قام مقام العدل و الأعنّات في الرّعيّة، أدّى إلى الإختلال... ثمّ نالت بعلبك قسطا من الرّاحة، و أخذت في التّقدّم و التّوسّع، حتّى وصلت إلى ما هي عليه الآن...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق