الجمعة، 25 سبتمبر 2015



بقلم: حسين أحمد سليم

اللوحة الفنّيّة، المُشكّلة يدويّا أو آليّا أو رقميّا، باللونين الأسود و الأبيض، المرسومة بالحبر وفق الأصول و القواعد و الأساليب، و على أنساق مختلف المذاهب و المدارس و الإجتهادات، و المُوقّعة الخطوط و الأشكال و التّنقيطات المختلفة، أفقيّا و عاموديّا أو رأسيّا أو بؤريّا، و المائلة ذات اليمين و ذات اليسار... تلك اللوحات المُنفّذة بالحبر الصّيني المعروف باللون الأسود، و بقيّة الألوان الزّرقاء و الخضراء و الحمراء و الصّفراء، و على مساحة ما من الورق الأبيض المُقوّى... بإستخدام الرّيشة المعدنيّة القديمة الدّقيقة الرّأس أو المُفلطحة، أو قلم الكرافوس المُتعدّد الرّؤوس، أو قلم التّيرلين بساقيه المعدنيين أو الأربع و دولاب ضبط السّماكات المُثبّت به، أو قلم الرّسم الحديث الرّابيدو غراف برؤوسه المُتعدّدة السّماكات، أو بالقلم ذات الرأس الفلّيني المُدبّب و المتعدّد سماكات الرّؤوس و الألوان... إضافة إلى العديد من الأدوات الهندسيّة و الفنّيّة، كالمساطر العاديّة المُرقّمة، و مساطر الدّوائر و  البيضاويات و المربّعات و المثّلّثات، و مختلف المضلّعات و مساطر المنحنيات المنتظمة و غير المنتظمة، و المصنوع غالبيّتها من اللدائن الشّفّافة أو المُلوّنة، أو من المعدن، إضافة لآلات التّكبير و التّصغير كالبّانتوغراف، أو آلة الأشعّة الضّوئيّة، أو من خلال إستخدام البرمجيات الرّقميّة الفنّيّة أو الهندسيّة و ملحقاتها التّقنيّة العديدة و ذات اللمسات السّاحرة، كحزم الأوتوكاد و الفوتوشوب و الكورال درو وغيره...

اللوحة الفنّيّة التّشكيليّة باللونين الأسود و الأبيض، هي بالمفهوم الفلسفي الفنّي التّحليلي، كائن صامت و ساكن في كلّ التّفاصيل، و مُبتكر جديد، يتفتّق من عبقريّة إنسان يُسمّى فنّان... هذه اللوحة تتراءى للمتلقّي و حتّى صاحبها و مُبدعها، و هي تتحرّك بمكوّناتها و تتنفّس بعناصرها، و تبوح بأسرارها و مكتنزاتها... و هي في البعد الفنّي الآخر، طاقة في سكينتها و صمتها تتخافى و تتماهى في عناصرها، لِتتحوّل في هالات من ومضات في سيّالات تتشعرن و تتموسق في روح رسّامها، خالقة له في خافيات وجدانه و نفسه علاقة حبّ و عِشق، تُزاوج بين رؤيته في البعد المُمتد خلف اللامحدوديات الخياليّة، و ريشته أو قلمه بعد أن تُمسّده الأنامل الحانية الدّفء، ليبدأ الجرأة في البوح الفنّي، بعناصر التّنقيط المجزوءة أو المتتابعة و المتلاصقة، لخلق الخطوط ذات التّوصيفات الفنّيّة، و بالتّالي الوصول إلى التّشكيلات المرجوّة فالسّطوح اللازمة فالأشكال الموحية بما تكتنز في خافياتها...

تتحابب النّقاط فتتقارب و تتعانق و تتماذج فتتكامل في تكوين الخط المطلوب، ثمّ تتعاشق الخطوط في توصيفاتها الفنّيّة و الهندسيّة لتتآلف فيما بينها مُشكّلة نماذج من الأشكال ذات البعدين أو الأبعاد الثّلاث... تتعانق و تتناغم في موسقات ما، على وقع ترانيم النّفس و رقصات القلم الإنسيابيّة أو الرّيشة، لِتحقيق تشكيل ما و رسم تكوين ما، تتضادّ ألوانه أو تتكامل ما بين الأبيض و الحبر الأسود، على إمتداد صفحة من الورق المُقوّى، أو على لوحة من الخشب المُرقّق، أو فوق لوحة من اللدائن أو المعدن أو الزّجاج أو الجلد أو على جدار... و تعني هذه اللوحة تعبيرا تبوح به عناصرها، إنطباعيّا أو كلاسّكيّا أو تجريديّا أو سورياليّا أو حداثيّا أو إبتكاريّا، ربطا ما بين المعاناة في الواقع و التّطلّعات في عالم الإفتراض، تحقيقا للتّوازن ما بين ضجيج الخفايا في طوايا الإنسان و جرأة البوح لما يتطلّع إليه في البعد المأمول كأحلام ورديّة تتحوّل يوما إلى رؤى مرتجاة تتحقّق مع تعاقب الأزمان في المكان المُعاش...

اللوحة الفنّيّ التّشكيليّة المرسومة باللونين الأسود و الأبيض، تُسهم على يد رسّامها في إثراء مسحات الجمال، و هذا النّوع من الرّسم الفنّي يُحقّق تفهّما بين المرسل و المتلقّي، و يشرح تعبيرا سريعا و عميقا بين المُتلقّي و المُرسل... وهذا النّوع من الرّسم، يرفع أيضا من مستوى الحسّ الفنّي و التّذوّق عند الجماهير و المتذوّقين... بحيث يتجسّد في تحقيق الرّؤى الجماليّة، التي تمحو معالم القبح التي تملأ نفوسنا، و تسعى قهرا آخر، لِتدمير حياتنا النّفسيّة، و القضاء على كلّ حسّ راق، يحول دون التّمتّع بما يتجلّى حولنا من عظمة ما خلق الله و أبدع... و هو ما يتراءى لنا من إنعكاسات جمال الطّبيعة حولنا، و خاصّة في قلب الليل الحالك في حندسته، بحيث تتلامع النّجوم المُعلّقة في قبّة السّماء، و كأنّها القناديل الوضّاءة الأنوار، تتدلّى كما الثّريّات... و هنا يتماهى عِشق الرّسم و التّشكيل باللونين الأسود و الأبيض، أكثر من بقيّة الألوان المعروفة، لما لهذين اللونين من مذاق خاصّ و من رؤية مميّزة و من إطمئنان نفسي... لفنّان تشكيليّ رسم بالقلم فأبدع، فإنطبع إبداعه فوق العديد من قطع الورق المُقوّى، عاكسا الوجه الفنّي التّشكيلي البارز له في عالم الرّسم باللونين الأبيض و الأسود، عنيت به محمّد كركلاّ الشّاعر الشّعبي البقاعي البعلبكي، المُتعملق من رحاب مدينة الشمس بعلبك، ينضح بالعنفوان الفنّي و الكبرياء التّشكيلي كما يتفتّق من خافيات وِجدانه بالشّعر المحكي، مُتألّقا من على ذرى و قمم تلال و جبال مدينته، الواقعة شرقي مدينة الشّمس بعلبك، و كأنّه النّقطة الإشراقيّة التي تُوزّع سيّالاتها في كلّ إتّجاه مع خوافق الأنسام...

لوحات الفنان محمّد كركلاّ المنفّذة بالحبر الصيني الأسود على الورق الأبيض، يستشف المتلقي من خلال تفاصيلها، أنّ الشّاعر الفنّان التّشكيلي كركلاّ، شاء من خلال مُنمناتها، إلقاء الضّوء بصورة فنّيّة إنعكاسيّة على معالم وخفايا مشهديّات تفاصيل جوانب من حياته... هذا و من جهة ثانية، يُحاول خلق عالم من التّماس و المحاكاة، بين شاعريّته المحكيّة على أوتار أبجديّة اللهجة الشّعبيّة الرّيفيّة، و بعض لوحاته الرّافلة جمالا، بالحبر الصّيني الأسود على الورق الأبيض المُقوّى، و كأنه يرمي إلى شعرنة لوحاته بموسقات شعره، وإلى تفعيل ترانيم عناصر خطوط لوحاته لتتكامل بتفعيلات بحور قصائده... سيّما منها تلك اللوحات التي تكتظّ بالأشكال و تزدحم بالخطوط، و التي تجمع التّعدّديّة في التّكرار، من أشكال الطّيور، و أشكال الأجساد، و أشكال الوجوه، و في بعضها تزدحم أشكال الخيول، و أنواع من الغربان والشّمس القاتمة السّواد، و أغصان الأشجار المُتكسّرة، و الأشجار العارية من رونق أوراقها، تلك التي تعكس المعاناة في زمن القهر و الحرب... فيما يتلمّس المُتلقّي إشارات أخرى من الأشجار العارية في أغصانها، و يشعر بالقسوة في حركات أفعال الهندسة في تصاميم بعض لوحاته... و لوحاته بذل في تقنيّاتها نماذج من تخطيطات لها أبعادها الخافية و الظّاهرة، بحيث كان الحبر الصّيني،بإمكاناته الفنّيّة و تقنيّات الفنّان كركلاّ، يلعب الدّور الإستثماري الأكثر، ليبرز بجماليّاته في حركة التّنقيط و أسلبة الخطوط و مهارة التّشبيك، توصيفات فنّيّة عديدة بدت جليّة في صياغة وتجويد العمل الفنّي التّشكيلي، بإستخدامات الأحبار الصّينيّة السّوداء دون إضافات له أو تخفيفات أو تشفيفات، ليتحفّذ بكلّ قدراته و خبراته إلى ريادة عالم اللوحة الفنّيّة التّشكيليّة...   

لوحات الشّاعر و الفنّان التّشكيلي كركلاّ، بألوان الأسود و الأبيض، فيها من الصّياغات ما يُؤكّد على محاسن المستويات البصريّة، التي يزيد إستخدام الحبر الصّيني الكثير من المسحات الجماليّة، المُتنوّعة الأساليب، و تلك العناصر الأساسيّة التي إعتمدها الفنّان، و التي رأى فيها ومضات جماليّة، تتجسّد بإستخدام العنصر الجمالي في أنسنة خطوط و أشكال اللوحات، بالإنسان و الحيوان و الطّيّر و المنازل و أشياء أخرى، أجاد الفنّان الشّاعر كركلاّ في نمنمة عناصرها بأساليب هندسيّة متنوّعة، تجلّت بخطوطه المستقيمة و منحنياته و أشكاله الهندسيّة المختلفة، و كأنّه يُريد أن يقف على أبواب إبتكار مدرسة للرّسم و التّشكيل بالأشكال الهندسيّة، تتماهى بغنائيّة فنّيّة و بنائيّة تشكيليّة، تتماذج و تتكامل بتبادل تأثيراتها في كينونة الرّسومات، و ليس إنتهاء بحركة أفعال موسقات المساحات البيضاء مع الخطوط و الأشكال السّوداء، في ترانيم و مناجاة في رؤى التّجلّيات البصريّة و البصيريّة، في عمليّات التّظليل و الأضواء، و ذلك بتقنيّات عالية تُوثّق للغد تدوين إبداعات شاعر فنّان، إمتطى صهوات التّشكيل و الرّسم الفنّي بالأسود من الحبر الصّيني على كرتونة بيضاء، لِتُحفّذ بصيرة المُتلقّي قبل بصره، لولوج عالم الخافيات في مكتنزات اللوحات، المُنفّذة بالأسود و الأبيض للشّاعر الفنّان التّشكيلي محمّد كركلاّ...

الذي رسمه الفنّان الشّاعر بالرّيشة و الأحبار و القلم و الأوراق، تحملنا إلى عالم آخر من فعل التّذوّق لزخرفة أعمال تشكيليّة، تحملنا على صهوات خافياتها و معالمها، إلى ما تتماتع به العين الباصرة، ناقلة له كلّما رفلت أمام لوحة، إلى طوايا البصيرة التي تفرح و تطمئنّ لفانتازيا التّشكيل في رسم التّفاصيل، و حركة فعل التّخيّلات و التّصوّرات التي تتناهى إلى وجدان الفنّان من رذاذات الخيال، كي يصلّ الفنّان في تجلّيات إبداعاته إلى ما يشعر بترانيم موسقاته في شغافه و حناياه... إنّه شاعر بلاد بعلبك الشّعبي الفنّان التّشكيلي محمّد كركلاّ إبن لبنان من أرض قداسة البقاع...

الأربعاء، 23 سبتمبر 2015


يحي علي ياغي الفنّان التّشكيلي البعلبكي

قراءات و رؤى تحليليّة في بعض المسارات الفنّيّة عبر مراحله التّشكيليّة

بقلم: حسين أحمد سليم

إنّه يحي علي ياغي، الفنّان التّشكيلي الرّاحل، إبن مدينة الشّمس بعلبك، إبن ترتبتها المنيعة و الصّلبة. و إبن مجتمعها البقاعي... إلتحق بكلّيّة الفنون الجميلة في العام 1963 للميلاد و نال منها دبلوما في الرّسم... و درّس الرّسم في مدارسها الرّسميّة و الخاصّة لحقب زمنيّة، عاش سعيدا ضمن حدود مدينة الشّمس، بحيّ الرّيش في بعلبك، سيّدة البقاع اللبناني...

كان الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، يعمل في مرسمه بمزله البعلبكي، بصمت في الرّسم و التّشكيل و الحفر و النّحت، مع أدواته... و تأثّر و أحبّ "نيتشه" و كتابه عن "زرادشت" لأنّه كان يمنحه قوّة داخليّة، كما كان إعتقاده... قدم من بلدته بعلبك، إلى مدينة بيروت، و في يده كتاب عن "زرادشت" الإنسان السّوبّرمان...

تناول الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي في تشكيل لوحاته الفنّيّة و التّشكيليّة, موضوع الفلكلور البعلبكي و البقاعي و اللبناني بحب و عشق... غارفا من معين طقوسه و موسقات ترانيمه الشّعبيّة... و كان مبدعا مميّزا في نتاجاته الفنّيّة، فنال و حصد عدّة شهادات تقديريّو، و حصل على عدّة ميداليات من أوروبّا و خاصّة من باريس...

عرض أعماله في مدينة الشّمس، أثناء مهرجانات بعلبك الدّوليّة، فلاقت لوحاته المعروضة، صدى من الأجنبيّ الزّائر، و المتلهّف إلى معرفة شيء عن الفنّ التّشكيلي البعلبكي و اللبناني...

أقام معرض "لبنان و القمر" في فندق الكارلتون ببيروت، برعاية الدّكتور رفيق شاهين وزير الشّؤون الإجتماعيّة، ضمّ عددا من اللوحات الجديدة ذات المواضيع المبتكرة... و كان خطوة جديدة ذات أثر في عالم الفنّان ياغي المميّز... و هذا المعرض بلوحاته المبتكرة، ألهب حماس الشّاعر سعيد عقل يومها، مُعربا عن إعجابه بالفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، و أفكار إبتكاراته و سبكها بالقالب الفنّي التّشكيلي، لتعكس وجه لبنان الحضاري...

و المعرض الثّالث للفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، ضمّ لوحات تستوحي في غالبيّتها، الزّخرفة الشّرقيّة التي تعود إلى العهد الأموي، ثمّ الحضارة الفارسيّة، و بلغ عددها 110 لوحات تشكيليّة، تعتمد التّلوين المائي و الحفر...

و أقام الفنّان ياغي معرضا له في فندق الكارلتون بمدينة بيروت، برعاية نقابتيّ الصّحافة و المحرّرين، بتاريخ الخامس عشر من آذار للعام 1967 للميلاد... إفتتحه نقيب المحرّرين الأستاذ ملحم كرم، و ضمّ المعرض 35 لوحة من أجمل اللوحات التي رسمها الفنّان ياغي، تعكس بوضوح إتّجاهه الفنّي... و قد زارت المعرض الفّنانة المصريّة، الممثّلة سعاد حسني، و أعجبت بأعمال الفنّان ياغي، و طلبت منه زيارتها بالقاهرة، و أسنت على لوحة "حنان الأمّ" في المعرض، للفنّان ياغي... 

و أقامت ندوة الخميس بشخص رئيسها الرّاحل الأستاذ علي شرف، معرضا للفنّان التّشكيلي البعلبكي يحي علي ياغي، في قاعة المدرسة اللبنانيّة في بعلبك، بتاريخ يوم الأحد الواقع في الرابع و العشرين من شهر آب للعام 1969 للميلاد، و قد زار المعرض الفنّان رفيق شرف...

و أقام الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي معرضا له بتاريخ الأربعاء الواقع في الخامس من نيسان للعام 1972 للميلاد، و هو المعرض التّاسع، تحت عنوان "حوّاء و العامل الإجتماعي" ضمّ 34 لوحة في نادي الحركة الإجتماعيّة في بعلبك، عالج فيه الفنّان ياغي، مشكلة المرأة الشّرقيّة و ما تعانيه في الأجواء التي تعيش فيها...

و أشرف الفنّان ياغي و مُدرّس الرّسم في مدرسة النّهضة بالشّويفات لصاحبها زياد ذبيان، بضاحية بيروت الجنوبيّة، على معرض شامل شارك فيه طلبة المدرسة برسوماتهم...

هذا و أفرِد جناحا خاصّا للفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، في مركز الحركة الإجتماعيّة في بعلبك، عرض فيه الفنّان ياغي نماذجا من أعماله الفنّيّة التّشكيليّة في النّحت و الحفر و الزّجاج و اللون الشّرقي من إيحاءات البيئة البقاعيّة البعلبكيّة...

و بإشراف الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، أقيم معرضا فنّيّا تشكيليّا، بدار المعلّمين و المعلّمات في بعلبك، برعاية الدّكتور جورج المرّ، رئيس المركز التّربوي للبحوث و الإنماء, بحضور مدير الدّار السّيّد صالح الزّين...

و أهمّ المعارض التي شارك فيها الفنّان يحي علي ياغي، معرض الإسكندريّة الذي رعاه الرّئيس الرّاحل جمال عبد النّاصر، و معرض فيينّا في النّمسا في العام 1968 للميلاد و معرض ألمانيا الغربيّة...

إعتبر الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي أنّ هناك مؤامرة على الفنّ الذي يُعبّر عن المشاعر الوطنيّة و التّراث من قبل الأصابع الأجنبيّة المحلّيّة و المستوردة...

و لتحقيق المستوى المطلوب للفنّ، و لرفع قدرة الفنّان على الخلق و الإبداع، كان يُطالب الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، بتأمين الضّمان الصّحّي و الضّمان الإجتماعي للفنّان التّشكيلي...

و كي لا يبقى الفنّان ضحيّة لأشباح العوز و الفاقة، فيضطّرّ إلى أن ينزل في سوق الإستهلاك على حساب فنّه و قيمه و إبداعه، رأى ياغي أنّه يجب إقامة معارض سنويّة في المكاتب السّياحيّة في أوروبّا، و تشجيع التّبادل الفنّي بين البلدان العربيّة و لبنان...

إلى هذا، ففي معرضه الأوّل بفندق الكارلتون إجتاز الفنّان يحي علي ياغي المدارس الفنّيّة قفزا من أوّل تاريخ الفنّ، إلى مدرسة التّجريد...

و لوحات الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي بمعرضه الأوّل بفندق الكارلتون في مدينة بيروت، إشتركت بدم واحد في الهيكل العام، رغم إختلاف أشكالها، و جُمِعت بروح واحدة تهيمن على جميع اللوحات...

نذكر من لوحات الفنّان التّشكيلي البعلبكي يحي علي ياغي: أمّ ترضع طفلها، فتاة تحمل في يدها زهرة بيضاء، الطّفولة، فتاة من بعلبك، تجريد، العائلة، الألم و الحرّيّة، حنان الأمّ، شرقيّة، بعلبكيّة، عازفة الرّبابة، عاريات جوبّيتير، صمود...

و الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، كان يهتمّ ببعض لوحاته بتفاصيل الواقع نسبيّا، و يتصرّف برؤية الواقع كما يُحسّه لا كما يراه... و كان يهتمّ بتحليل الأشياء المرئيّة، و يشغله التّشكيل عمّا عداه... فكانت لوحات الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي في بعضها محمومة، و في بعضها عبارة عن خطوط سوداء متداخلة، تعطي إنطباعا عن شيء في الخافيات، في محاكاة للتّجريد... و كان الفنّان التّشكيلي ياغي يعيش حالات القلق و الخصوبة في آن واحد، بقدر ما كان يعيش الخطر و الخوف...

 

قبسات من حياة يحي علي ياغي الفنّيّة

بقلم: حسين أحمد سليم

بدأ الفنّان التّشكيلي يحي علي، ياغي حياته الفنّيّة التّشكيليّة في مدينة الشّمس بعلبك، سيّدة بقاع لبنان و مدينة البطولات و الفنون المختلفة العريقة، و هو لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، عندما بدأ يسكب مزيجا من ألوانه الأولى على مساحات من لوحات بسيطة كانت باكورة ولادة عمله الفنّي و بدايات بروز شخصيّته الفنّيّة البعلبكيّة...

و لمس فيه والده الشّرطيّ هوايته و حبّه للفنّ التّشكيلي و الرّسم، فأدخله إلى أحد المعاهد الفنّيّة "معهد غوفدير"  الوحيد في العاصمة، التي كانت تموج بأهوال و أطياف من الألوان و الأشكال، و جيوش من كلّ حدب و صوب، من الفنّانين التّشكيليين و الرّسّامين و المتمسّكين بأهداب الفنّ التّشكيلي و مدارسه و أساليبه...

و لمع الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي من بين زملائه، عندما برزت خيوط لوحاته، للمرّة الأولى في إحدى المعارض الفنّيّة، و كانت لوحته تحت إسم: "ولادة"، أوّل لوحة نال عليها جائزة تقديريّة، دفعت به قدما لخوض غمار و مسارات الفنّ التّشكيلي... و لم يقتصر عمله على ولادة هذه اللوحة فحسب، بل قدّم لجمهوره و متذوّقي فنّه التّشكيلي لوحات عديدة عُرف منها: "أمل و يأس" و "جوع و خوف" و "آدم و حوّاء"... و غيرها من المحاولات الفنّيّة التّشكيليّة النّاجحة، التي قدّمها في معرضه، الذي أقيم تحت إشراف جمعيّة رعاية الطّفل و الأمّ في مدينة الشّمس بعلبك، و حضره نخبة كبيرة من المواطنين و مُقدّري الفنّ التّشكيلي و الموهبة...

صنّفه مجلس الجامعة اللبنانيّة في الفئة الثّانية، بمعدّل ليسانس معادلة لشهادة معهد غوفدير...

و قد مرّ الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، بمراحل عديدة في سلسلة معارض تجريبيّة لمعالجة البيئة الشّرقيّة... بحيث لامس في نتاجاته الفنّيّة التّشكيليّة فنون الأرابيسك، و راح ينقد البيئة دون أن يعزّزها، بل يرسم شكلها المثالي الذي يجب أن يكون عليه... و كأنّه كان يعمل من خلال تجاربه الفنّيّة و رؤاه التّشكيليّة، على أن يتعالى الألم ليسكن الجمال مكانه...

كان على الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي في كلّ معرض فنّي تشكيلي له، أن يأتي بفكرة و عالم جديدين، يُجسّد من خلالهما إنطباعاته الذّاتيّة، مُجسّما تراثا عريقا في طابع شرقي متطوّر... و هو الفنّان الذي كان يُؤمن بتحديد الشّكل و الإطار، لأنّهما دلالة واضحة عن موضوعيّة منظورة. يسلخها من بيئة ريفيّة معيّنة أو عالم ما، و بالتّالي كان لا يستطيع أنّ يتخلّص من معطيات المدرسة الشّرقيّة التي يتأثّر بها، و يُحسّ أنّه سيغرف الكثير من منابعها التي لا تنضب رغم إنجراف فنّاني العصر نحو التّيّارات الفنّيّة الحديثة...

و لتكوين التّراث لديه، مهمّة شائكة، فهو دائما يبحث عن أداة تعريف و واقع نموذجي، ليصهرهما بتقنيّة ممهورة... فالفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي في غالبيّة معارضه، كان يُحاول بجدّيّة إعطاء ذاك الجوّ التّقليدي للرّيف اللبناني، و من هنا كانت لوحاته التّشكيليّة الفنّيّة تُمثّل حسّيات الرّيف، و أجوائه الفطريّة و مراحل معيشته، و خبايا تنطق بالعفويّة من يوميّاته...

و قوّة اللون لدى الفنّان ياغي، الذّوّاق في فنون الرّسم، إضافة لِتحلّيه بأخلاق كريمة، كانت تساعده في إبراز خطوطه، و في التّعبير عمّا يُحسّه هو بالذّات إتّجاه كلّ ما يُحيط به من جماليات...

مواضيع الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، كانت مُستمدّة في غالبيّتها من الحياة اليوميّة للنّاس العاديين، من عاداتهم، و أشغالهم، و إنتظارهم، و محادثاتهم، و هذا ما كان يُعطي اللوحات أسماء إنطلاقا من هذه الحالات الحياتيّة...

و المتتبّع للوحات و معارض الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، كان يتلمّس ألوانه البرتقاليّة، و الصّفراء، و البنّيّة، و الخضراويّة، الغارقة في أكثريّتها في حركات زخرفيّة، أوحتها له الخطوط الشّرقيّة و الإيرانيّة، التي تلفّ الأشخاص بخطوط لولبيّة، كأنّها وشوشات لونيّة حميمة...

و لوحات الفنّان التّشكيلي ياغي، كانت تريد أن تعطي لمتلقّيها صورة لحالات شعبيّة فيها الشّهادة و التّفسير و الوصف لأوضاع إنسانيّة و إجتماعيّة... و هذه تروي البؤس و الوحدة و الإنكسار في المجموعات المائيّة التي رسمها ياغي و كأنّ ثقلا يردّها إلى الأرض و يُصغّر من حجمها...

الوجوه في لوحات الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، البعلبكي، تعكس نفس وجوه أهل الجرد البعلبكي و الرّيف البقاعي و السّهول الممتدّة حول مدينة بعلبك، فالوجوه عنده دائما يرسمها مُلوّحة بلون الشّمس المحرقة، و بعري الأرض و التّلال...

الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، البعلبكي الذي ولد عشيّة عيد الإستقال اللبناني، من العام 1943 للميلاد، حيث رُفع إسم و راية و مجد لبنان عاليا، و فرض وجوده وطنا عربيّا مُستقلاً... في رحاب هذا اليوم للمناسبة التّاريخيّة العتيدة، أشرقت الشّمس مبتسمة في فضاءات مدينتها بعلبك، مُبشّرة بولادة الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، من رحم السّيّدة غفران مالك ياغي قرينة والده، الشّرطيّ...

إختار الفنّان ياغي أن يُتوّج معرضه السّادس في فندق الكارلتون ببيروت، بأجمل لوحاته الخالدة بخلود لبنان... حيث إمتطى صهوة خياله و سرح بأفكاره بعيدا فوق سطح القمر، فخلق بذكائه الخارق إبتكار لوحاته الغريبة الإبداع، التي رسمت حضارة لبنان القمر فوق أرض الأنبياء، أرض الحرّيّة و الكرامة و البقاء...

يحي علي ياغي، الفنّان التّشكيلي البعلبكي، شاء يومها أن يساهم في وجوديّة و كينونة لبنان الفضاء، فرسم ما رسم من أبعاد رؤى خياله الممتدّ، و أجاد بما رسم، حيث تمخّضت ريشته السّاحرة على أوتار الألوان، فأعطت أشكالا و ألوانا جديدة و مميّزة و مُشرّفة و مُمجّدة... حيث شاء أن يرسم لبنان فوق سطح القمر، متأثّرا بروّاد و رحلة أبّولو 11 المأهولة إلى سطح القمر و التي برز من روّادها يومها أرمسترونغ... فشاء وجود جغرافي للبنان على سطح القمر، الكوكب الذي تصارع العالم للوصول إليه... فأوجد الفنّان ياغي بريشته السّاحرة الحالمة، التي رسم بها لوحاته التي تُمثّل لبنان فوق سطح القمر...

و هكذا يكون إبن بعلبك الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي، قد ساهم برفع شعار وطنه عاليا، و إثباته فوق سطح القمر و إن فنّيّا و تشكيليّا... و بذلك يكون قد أعطى لبنان مجدا آخر، و منح وطنه إنطلاقا مُشرّفا في حياة الفنّ التّشكيلي و دنيا الجمال بمشهديات مغايرة، إتّسمت بسورياليّة تجريديةّ فنّيّة... حيث تألّقت بعض لوحاته بشكل رائدة لبنانيّة و على صدرها الأرزة الخالدة، بمركبة الأرز اللبنانيّة الخالدة، راسية في ميناء على سطح القمر بسلام... و هنا ترجم الفنّان ياغي بريشته و ألوانه جغرافيّة لبنان فوق سطح القمر، فأتت و كأنّها آية من الرّوعة و الخلود و الجمال، و كأنّه بلوحات معرضه لبنان فوق سطح القمر، يريد أن يُثبّت ملكيّة لبنان في القمر...

و من العادات اللبنانيّة العريقة، تكريم من يقوم بواجباته وفيّا و مخلصا بمنحه حقوقه تقديرا له، فالفنّأن ياغي الذي رفع أرزة لبنان فوق سطح القمر، يستحقّ التّقدير، و كان من الواجب المفترض على المعنيين منحه وساما إستحقاقيّا رسميّا لبنانيّا رفيع المستوى، تقديرا له على عطاءاته الفنّيّة التّشكيليّة في مرحلة وجوديّته في بعلبك لبنان...

ساهم الفنّان ياغي و أعطى و رسم و بذل جهدا مميّزا، ما لا يستطيع سواه من فنّاني لبنان في ذلك الوقت... الذي خُلق ببركة و رحمة الله تعالى، الفنّان ياغي في أجمل مناسبة لبنانيّة تاريخيّة...

رحل الفنّان التّشكيلي يحي علي ياغي إلى رحاب الله، بعد مرض عضال ألمّ به ففتك بما تبقّى من حياته، تاركا خلفه زوجته اثّكلى غفران مالك ياغي و طفلين صغيرين: زاهر و جوليانا... و برحيله إندثرت جميع أعماله و إختفت جميع موروثاته الفنّيّة التّشكيليّة و التي تجاوزت المئات ما بين لوحات و منحوتات، إلاّ ما كان ضمن ممتلكات وزاراة الثّقافة اللبنانيّة و البعض ممّن يقتنون منها شيئا و هم قِلّة... و حتّى أدواته و أشياؤه إختفت بقدرة قادر، و لم يبق منها إلا بعض وريقات لا تفي بغرض التّوثيق لأعماله و سيرته الشّاملة إلاّ بالنّذر القليل... و هكذا ساهمت كلّ الأشياء و الأحياء بنسيانه كفنّان تشكيلي بارز في مدينة بعلبك و لبنان و العالم العربي و الغربي...

وفاءً له و تخليدًا لذكراه... ندعوا جميع من يهمّهم الأمر، على العمل الجادّ، للبحث و جمع أعمال و موروثات، الرّاحل الفنّان التّشكيلي البعلبكي، المغفور له يحي علي ياغي، له الرّحمة و أسكنه الله فراديسه، و كلّ ما كتبت عنه و عن نتاجاته الفنّيّة و التّشكيليّة في الصّحافة و وسائل الإعلام المحلّيّة اللبنانيّة و غيرها، و العمل على البدء بتأسيس معرض دائم تحت إسم "معرض يحي علي ياغي" فنّان مدينة الشّمس بعلبك... و كذلك العمل الفعلي على إصدار كتاب توثيقي و وضع تمثال نصفي في ساحة عامّة يُخلّد إسمه في بعلبك و لبنان و العالم... و إحياء ذكره بمهرجان ثقافي فني سنوي من قبل من يعنون بالحضارة الثّقافيّة و الفنّيّة في بعلبك و لبنان...

الثلاثاء، 22 سبتمبر 2015

خربشات نجمة بنت طالبي
بدايات خلق و إبداع تتراسخ بالممارسات و التّجارب و زيادة ثقافة الوعي و العرفان
بقلم: حسين أحمد سليم
تكتب نجمة بنت طالبي كلمات خواطرها و نصوصها، كما يحلو لها أن تسمّيها و تذهب بعيدًا في توصيفها " خربشات "... نثريّة النّسق ذات طابع فنّي التّشكيل، تميل في بعضها نغماتها المتناسق إلى الشّاعريّة، فيما البعض منها يتماسّ تلامسًا لطيفًا مع فنون الشّعر، و كأنّها فيما حملت بوجدانها، معالم البوح في جرأة كتاباتها، شاءت محاكاة توكيد شخصيّتها الإنسانيّة، و هي تمتطي على صهوات أجنحة محارف الكلمات، لتنسج منها في البعد الآخر ما ترتاح له نفسيّتها و يطمئن له قلبها، و هي تمارس حركات أفعال الإجتهاد في خلق فقهيّة مستحدثة لها خصوصيّتها، ترسم و تشكّل من خلالها لوحة مشهدّيّتها، كنجمة بنت طالبي، التي يتراءى لها بين اليقظة و الغفوة تلك الحقيقة المجلوّة و التي تراود وجدانها، و هي تتأبّط قيثارها ذات الوتر الأوحد، لتعزف موسقاتها ذات الإيقاعيّة الخاصّة، بترانيم أنثويّة نسائيّة لها حنينها الخاصّ، و لها وقعها الذي يرود جلاء الأسماع، ليصل إلى جلاء النّفس، فإذا بالعقل يتقلبن منتعشًا بالحنين لأنثى كاتبة أتت كما غيرها من رحم أمّها، إنّما لها ميزتها الإبداعيّة، بحيث تجتهد بقلبنة عقلها حينًا، لتتجرّأ بالبوح بما يعتلج في طواياها، تشكّل من سيّالاته بعض ما تطمئن له ذاتيّتها، فتأتي كتاباتها على شاكلة خواطر قصيرة، تفوح من محارفها و كلماتها و جملها و تشكيلاتها روائح الطّيب، تتجسّد في ضوع و شذي رحيق نصوص نثريّة تحاكي الإيقاعات الشّعريّة في سبكها و صبّ بعض قوالبها...
دائما تسعى نجمة بنت طالبي في ما حملت وجدانها على ريادته في البعد الخيالي، تحريضا آخر ليتتناهى لها خفق السّيّالات من المدى، و كأنّها الرّذاذ يتهادى حنينا من الفضاءات العلا، ليروي عطش الأرض الظّمأى، التّوّاقة للماء الذي جعل الحقّ منه كلّ شيء حيّ... فتراها ترتدي قناع خفاياها في غفلة من ضحكات بكائها، لترسم على نسائجه وشائج نفسها و إبتساماتها، و هي تشكّل الحقيقة التي عنها تبحث و لو بمجرّد رمز من علامة, تخطّ عناصره قناعة واثقة من نفسها بومض أو قبس من وسامة... محاولة في كلّ ما جنحت إليه على ذِمّة الأقدار، أن تقنع من حولها بفرحها و سرورها و حبورها و إطمئنانها، وهي تخفي جراحاتها النّازفة و عذاباتها التي منها تتضوّر، و ما يعاني منه قلبها الباكي الصّامت، المليء طافحًا بالأسرار، و الذي أرهقته الأوجاع و حطّمته الأقدار... لكنّها أبدًا لم و لن و لا تشعر بضعفها البشريّ، أمام قهر الأيّام و تعاظم المعوقات بوجهها، لأنّها تحمل في روحها إيمان يكتنز بمعالم الصّفاء و النّقاء في كلّ ما به تبوح جرأة و تكتب...
المتتبّع بوعي و المتفحّص بعرفان، لكتابات نجمة بنت طالبي المنشورة في صفحتيها الطّافحتين بخواطرها القصيرة، عبر برمجيات التّواصل الإجتماعي الفيسبوكيّة بالشّبكة العالميّة العنكبوتيّة للمعلومات " الأنترنت "، يستطيع أن يسبر أغوارها بشيء من الخبرة، ليستكشف أنّنجمة بنت طالبي، تحمل ذاتيّتها على الهيام في الأبعاد الممتدّة، و كأنّها تتمثّل الفراشات و العصافير و الأنسام، تحاول أن تقطف من كلّ معلم ماورائيّ ومضةً، و تلتقط من كلّ بارقة في البعد الآخر قبسًا، تعكف في مخزون طواياها الإنسانيّة و بوعيها الباطني و عرفانها الذّاتيّ، على تشكيل رؤاها بعد معالجتها حينًا أو تجاوز معالجتها أحيانًا، لترسم و تُشكّل لوحاتها بأنساق مستحدثة، تغرقها طيبة نفس و قلبٍ برموز معيّنة، و تُلبسها ديثاراتًا و أوشحةً من أوشحتها التّقليديّة التّراثيّة في مجتمع بيئتها، تتماهى بمسحاتٍ من فلسفة تجريديّة أو سرياليّة أو إنطباعيّة أو واقعيّة أو كلاسّيكيّة أو تحمل أسلبة الحداثة العصريّة، فإذا بها تتلامس كتاباتها على تناسقها أو إختلافها، و تتماذج بألوان تتكامل في سياقاتها حينًا و تتنافر في تزاوجها حينًا آخر، و يتوالد فيما بينها المتنافر ما يقارب بين تنافرها، لتعكس مشهديّات جماليّة لافتة لا تلتقطها إلاّ العيون الرّافلة بالجمال في حداقاتها، و لا تعي فقهيّة أبعاد أسرارها إلاّ العقول المُتفكّرة بطوايا رحمة الله و مودّته لها...
تجارب نجمة بنت طالبي الكتابيّة المتنوّعة، و التي شاءت لها أن تتفتّق من زاوية الخواطر القصيرة، النّثريّة بفنونها و الشّاعريّة بموازينها، توزّعت على لوحات تحمل مشهديّات من الوصف المُسهب حينًا و المُختصر حينًا آخر، و لجت في تشكيلها الكاتبة من كوى الرّؤى المعيشيّة و الحياتيّة، و الأساليب الشّعبيّة السّائدة في حركات أفعال تعامل و تواصل النّاس فيما بينهم، و صولاً إلى رؤى فعل النّقد الإجتماعي، و حيًا و إلهامًا و إستقراءً من واقع المجتمع البيئي الذي تعيشه، بكلّ موروثاته و تقاليده و أعرافه و قناعاته و تطلّعاته... هذا و لم تغفل الكاتبة ولوج فنون الغزل اللطيف و الخفيف و الملتزم في نصوصها، تماشيًا مع أخلاقيات و مناقبيات و نظم البيئة المحافظة... و كذلك كان للكاتبة بعض الكتابات التي تناولت جوانب من الفلسفة المبسّطة و أخرى من الحكمة و البعض من الصّوفيّة و بعض الكتابات الحواريّة... و الكثير من الكتابات المتنوّعة التي تنضع بالمودّة و الرّحمة لتتفرّع نضارة بالحبّ الأقدس و العشق الأطهر، إضافة لبعض الكتابات الوطنيّة التي تنمّ عن مدى حبّها لوطنها الجزائر و تعلّقها بهويّتها العربيّة، و التي ساهمت بنشرها لأصدقائها و متتبّعيها، بحيث تجلّت في بعضها و أبدعت، و تستوجب بعضها كتاباة حروفها بماء من ذهب و ليس بحروف ضوئيّة، فيما البعض منها كان يتطلّب التّريّث بنشره، لمراجعته و تنقيحه و تعديله ليأتي أكثر جماليّة في حبكته الفنّيّة و أسلبته الإبداعيّة...
مجمل كتابات نجمة بنت طالبي، يغلب عليها الطّابع القصصي اللافت، و التي إستقته الكاتبة من مجريات الأحداث التي تحدث في مجتمع بيئتها أو مجتمعات أخرى متقاربة مكانًا و زمانًا و تقاليدًا و أعرافًا... و أستطيع أن أقول بكلّ جرأة و بوح شفيف و رأي تكليفي و مسؤول مشفوعًا بنبل في التّوصيف، أنّ ما قرأت من كتابات نجمة بنت طالبي، هو بدايات لافتة و تتّسم بمسحات من جماليات و أفكار و توصيفات، لمشروع كاتبة مستقبليّة، سيكون لها حضورها القوي فيما تحمل من بذور إبداع، و ملامح تجلّيات في مجالات الخواطر القصيرة و الأقاصيص المختصرة و الأقوال الحكميّة و غيرها ممّا يراود وجدانها، إن إلتفت إلى كيفيّة تفعيل أدواتها و تقنيّاتها، و واظبت على إثراء ثقافتها بكشكولات من الألوان الثّقافيّة التي تغني وعيها و عرفانها، و هي قادرة على حركات الأفعال لتحقيق ما تصبو إليه في المدى...
و من خربشات نجمة بنت طالبي إخترنا هذا النّموذج
سأسجنك داخل قلبي، و حارسك سيكون رمشي، فلا تراك إلاّ عيني، و لا أنت ترى غيري...
إن أعجبك قصري، سأزيدك قربي و ودّي، و إن خنتني، سأقلب وجهي...
لا أحب أن أفرض حبّي، فقط أن تحترم مشاعري...
فأنا أشبه النّمر في قوّتي، فلا تستهين أنت بقربي...
و إلا ستبكي الدّهر لبعدي، و سيرافقك طيفي أينما تمضي، و لن تستطيع نسيان إسمي...
خربشات نجمة بنت طالبي
مشوار المحبّة و السّلام
أسس و مفاهيم
مهداة للأخ أحمد وهبي رائد مشوار المحبّة و السّلام
بقلم: حسين أحمد سليم
تعتبر المحبة في مفاهيم المسارات الإنسانيّة في قمّة الفضائل و الأخلاق العظيمة، تلك التي وصّف فيها الله رسوله و نبيّه محمّد بن عبد الله بالخلق العظيم... فالمحبة في مفهومها الإنسانيّ و الرّوحيّ، هي الفضيلة الأولى في مقوّمات الشّخصيّة الإنسانيّة، بل هي مجاميع كلّ الفضائل في كينونة الإنسان... و هي المدخل الأقوم، و الصّراط الأفضل، و الطّريق الأصدق، لريادة مسارات السّلام الفعلي، المنشود عمليّا في هذا العالم الإنسانيّ الذي ضاق ذرعا بالصّراعات و الحروب و البغضاء و الإعتداءات و الإغتصابات و السّرقات و اللصوصيات و الجرائم و القتل و التّدمير... و السّلام ما هو إلاّ سلوك حيوي معيشي، ينبع من قيم المحبّة في المجتمع الرّاقي، و جميع الأديان السّماويّة دعت للسّلام، و إختار الله عزّ وجلّ لنفسه إسم السّلام... و التّحيّة بين العرب قبل الإسلام، كانت "السّلام عليكم"... و كانت تعني عدم الحرب و الإستقرار بين القبائل و العشائر العربيّة... و جاء الإسلام ليدعو النّاس للعمل بنفس التّحيّة، و تحيّة "السّلام عليكم" هي تعبير آرامي قديم، وردت في العهد القديم من الكتاب المقدّس، و كانت مستخدمة في زمن الأنباط في البتراء... و قد وردت في بعض آيات القرآن الكريم، على لسان السّيّد المسيح، في قوله: "السّلام عليّ يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيّا" و أمّا في بقيّة الأنبياء و الرّسل، فيقول القرآن الكريم: "سلام على نوح" و " سلام على إبراهيم" و موسى و إبراهيم و موسى و هارون و آل ياسين و سلام على المرسلين"...
و الوصيّة العظمى في النّواميس الإلهيّة، هي العمل بالمحبّة، أيّ أن يُحبّ الإنسان الله إلهه من كلّ قلبه، و من كلّ فكره، و من كلّ وجدانه و من كلّ قدرته... و يُحبّ قريبه كنفسه، و بهذا تتعلّق جميع النّواميس الإلهيّة و رسالات الرّسل و الأنبياء... و لقد جاء جميع الرّسل و الأنبياء إلى هذا العالم، لكي ينشرون المحبّة، المحبة الباذلة المعطيّة، محبّة الله للنّاس، و محبّة النّاس لله، و محبّة النّاس لبعضهم البعض...
وهكذا يجب أن يتوفّر في الخلق الإنسانيّ حبّ بعضهم نحو بعض... و بهذا نحبّ الله حقّ الحبّ، و نحبّ الخير بحقّ... و نطيع الله من أجل محبّتنا له، و محبّتنا لوصاياه و محبّتنا لبعضنا البعض... و تربطنا بالله سبحانه و تعالى علاقة الحبّ، لا علاقة الخوف. فالخوف يربّي عبيدًا، أمّا الحبّ فيربّي الأبناء، و تبدأ علاقتنا مع الله بالمخافة و لكنّها يجب أن تسمو و تتطوّر حتّى تصل إلى درجة الحبّ، و عندئذ يزول الخوف من صدورنا... و يجب علينا ألاّ نخاف الله... ذلك لأنّنا نحبّه، و الحبّ يطرح الخوف إلى الخارج من كينونتنا...
والإنسان الذي يصل إلى محبّة الله بحقّ، لا تقوى عليه وساوس الشّياطين مهما تعاظمت... تحاربه الشّياطين من الخارج، و لكن تتحطّم كلّ سهامهم على صخرة محبّته... فالمحبّة لا تسقط أبدًا...
و قال النّبي سليمان الحكيم في سفر النشيد: " المحبة قوية كالموت... المياه الكثيرة لا تستطيع أن تطفيء المحبّة"... و لذلك أحبب و أفعل بعد ذلك ما تشاء... و من مناجاة داود النّبي لربّه، قال: " يا ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك حتّى أحبّه بحبّك فقال الله عزّ وجّل، أحبّ عبادي إليّ، تقيّ القلب، نقيّ اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبّني، و أحبّ من أحبّني و حبّبني إلى خلقي، فقال داود: يا ربّ إنّك تعلم أنّي أحبّك، و أحبّ من يحبّك، فكيف أحبّبك إلى خلقك، قال يا داود ذكّرهم بآلائي، و نعمائي و بلائي"...
وقد بلغ من أهمّيّة المحبّة أنّها غدت إسمًا لله تعالى... الله محبّة، من يثبت في الله، و الله فيه... و إنّ المحبّة في المفهوم الإنساني الرّوحي، هي قمّة الفضائل جميعًا للإنسان العاقل السّويّ... و هي أفضل من العلم، و أفضل جميع المواهب الرّوحيّة، و أفضل من الإيمان و من الرّجاء...
و قد ورد عن بعض القدّيسين، أنّ من يتكلّم بألسنة النّاس و الملائكة، و لكن ليس له محبّة، فقد صار نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ، و إن كان له نبوءة، و يعلم جميع الأسرار و كلّ علم، و إن كان له كلّ الإيمان حتّى ينقل الجبال، و ليست له محبّة، فليس شيئًا...
فالعلم ينفخ، و المحبة تبنى... و الدّين في جوهره ليس ممارسات و لا شكليات و لا فروضًا، و لكنّه حبّ في الله تعالى... و على قدر ما في قلب الإنسان من حبّ لله و حبّ للنّاس و حبّ للخير، هكذا يكون جزاؤه في اليوم الأخير... و إنّ الله لا تهمّه أعمال الخير التي يفعلها النّاس، إنّما يهمّه ما يوجد في تلك الأعمال من حبّ للخير و من حبّ لله و من محبّة للنّاس خالصة لا تشوبها شائبة...
فهناك أشخاص يفعلون الخير ظاهرًا و ليس من قلوبهم، و هناك أشخاص يفعلون الخير مجبرين من آخرين، أو بحكم القانون، أو خوفًا من الإنتقام، أو خوفًا من العار، أو خجلاً من النّاس... و هناك أشخاص يفعلون الخير من أجل مجد ينالونه من النّاس في صورة مديح أو إعجاب... كلّ هؤلاء لا ينالون أجرًا إلاّ إن كان الحبّ هو دافعهم إلى الخير في سبيل الله و خلق الله...
لذلك ينبغي أن نخطّط بكلّ فضيلة بالحبّ، و نعالج كلّ أمر بالحبّ، و أن يكون الحبّ دافعنا، و يكون الحبّ وسيلتنا، و يكون الحبّ غايتنا...و لتصر كلّ أمورنا في محبّة الله و محبّة النّاس... و الحبّ في حقيقته الجوهريّة يدخل في كلّ الفضائل... كما ينبغي أن يدخل الإتّضاع في كلّ فضيلة، لكي يحفظها من الزّهوّ و الخيلاء و المجد الباطل، كذلك ينبغي أن يدخل الحبّ في كلّ فضيلة، لكي يعطيها عمقًا و معنى و حرارة روحية...
فالصّلاة مثلا هي إشتياق القلب لله، و هى تعبير عن الحبّ الدّاخلي لله و خلق الله... و هو ما قاله داود النّبي في مزاميره: "يا الله أنت إلهي، عطشت نفسي إليك إلتحقت نفسي وراءك... كما يشتاق الأيّل إلى جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله... محبوب هو إسمك يا ربّ، فهو طول النّهار تلاوتي"... "وجدت كلامك كالشّهد فأكلته"...
و الذّهاب إلى بيت الله، يقول داود النّبي في مزاميره: "مساكنك محبوبة، أيّها الرّبّ إله القوّات... تشتاق و تذوب نفسي للدّخول إلى ديار الرّبّ"...
إذن فليست الصّلاة فقط هي علاقة حبّ، و لا الذّهاب إلى بيت الله فحسب، و إنّما العبادة كلّها... إنّ العبادة ليست هي حركة الشّفتين بل القلب، إنّها حركة القلب نحو الله... إنّها إستبدال شهوة بشهوة: ترك لشهوة العالم، من أجل التعلق بشهوة الله في سبيل الخير...
كذلك خدمة الله، و السّعي لخلاص أنفس النّاس... كلّها أعمال حبّ... فالخادم هو الإنسان الذي يحبّ النّاس، و يهتمّ بمصيرهم الأبديّ، و يسعى إلى خلاص نفوسهم. إنّه كالشّمعة التي تذوب لكيّ تضئ للآخرين دروبهم...
لذلك كلّ إنسان يخدم الله، عليه أن يتعلّم الحبّ، قبل أن يخدم النّاس... فالنّاس يحتاجون إلى قلب واسع و صدر رحب و عقل مقلبن و قلب معقلن و وعي باطنيّ و عرفان ذاتيّ، يحسّ إحساسهم، و يشعر بهم و يتألّم لآلامهم، و يفرح لأفراحهم، و يحتمل ضعفهم، و لا يحتقر سقطاتهم، بل أيضًا يحتاجون إلى قلب يحتمل جحودهم و صدودهم و عدم اكتراثهم... و بالحبّ نستطيع أن نربح النّاس من حولنا...
و الإنسان الذي يعيش بالحبّ، عليه أن يحبّ الكلّ... فإنّ القلب الضّيّق هو الذي يحبّ محبّته فقط، أمّا القلب الواسع فيحبّ الجميع حتّى أعداءه من حوله... و هو ما قاله السّيّد المسيح عليه السّلام: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، و صلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم و يطردونكم"...
أيّها الأخوة، أنظروا إلى الله تعالى الذي تشرق شمسه على الأشرار و الصّالحين، و تمطر سماؤه على الأبرار و الظالمين... لذلك علينا أن نحبّ الكلّ، و لا نضيق بأحد و نأخذ درسًا حتّى من الطّبيعة... نتعلّم من النّهر الذي يعطى ماءه للكلّ، يشرب منه القدّيس، كما يشرب منه الخاطئ... و أنظروا إلى الوردة كيف تعطى عبيرها لكلّ من يعبر بها، يتمتّع برائحتها البارّ و الفاسق، حتّى الذي يقطفها، و يفركها بين يديه، تظلّ تمنحه عطرها حتّى آخر لحظة من حياتها...
تعالوا أحبّتي و أخواني و أصدقائي، تعالوا نعيش معًا بالحبّ، و أقصد به الحبّ العملي، لا نحبّ باللسان و لا بالكلام، بل بالعمل و الحق و الوعي و العرفان... لأن كثيرين قد يتحدّثون عن الحبّ، و أعمالهم تكذّبهم...
و أهمّ ما في الحبّ هو البذل، و أعظم ما في البذل هو بذل الذّات... فلنحبّ النّاس جميعًا، لأنّ القلب الخالي من الحبّ، هو خال من عمل الله فيه، هو قلب لا يسكنه الله... و إن لم نستطع أن نحبّ إيجابيًا فعلى الأقل لا نكره أحدًا. فالقلب الذي توجد فيه الكراهيّة و الحقد هو مسكن للشّيطان... و إن لم نستطع أن نحبّ النّاس، فعلى الأقل لا نكرههم، و إن لم نستطع أن ننفع النّاس، فعلى الأقل لا نؤذيهم...
فليعطنا الله محبّ البشر، الذي أحبّ الكلّ في عمق، أن نحبّ بعضنا بعضًا، بالمحبّة التي يسكبها الله في قلوبنا... لأنّ المحبة هي قوت القلوب، و غذاء الأرواح، و هي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الموات، و هي النّور الذي من فقده فهو في بحار الظّلمات، و هي الشّفاء الذي من عَدِمه حلَّت به الأسقام، و هي اللذّة التي من لم يظفر بها فعيشه كلّه هموم و آلام... و ما الإنسان إلاّ عقل يدرك ، و قلب يُحبّ... و إنّه لا إيمان لمن لا محبّة له، فالإيمان و الحبّ متلازمان، تلازم الرّوح و بالجسد، فما قيمة الجسد من دون روح كذلك ما قيمة الإيمان من دون حبّ... و بالسّلام المبني على المحبّة، تُبنى الحياة التي من أجلها كان الإنسان، فما أجمل السّلام و ما أروع كلمة السّلام في جوهرها و فعلها الميداني، فالسّلام كلمة حلوة و نغمة عذبة تطرب لها الآذان و تسعد لها القلوب، لأنّ السّلام إسم من أسماء الله الحسنى، و هذه الكلمة في الحقيقة تعني الأمن و التّسامح و الرّخاء و الإستقرار...

كتابات زروالي فتيحة الجزائريّة

بقلم: حسين أحمد سليم

تُخيّم على حين ومضة من حركة هدأة السّكون, و تنفلت قدرًا من قيود المكان, تتحدّى حركة فعل الحركة في مسارات الزّمان, فتولد من قلب المدى اللامحدود و اللامتناهي، لحظة الخلق و الإبداع و الإبتكار... 
تتماهى قدرًا في تلك الفضاءات الممتدّة, الموغلة في بعد الإتّساع, و هناك, على ذمّة القدر, تبتدئ اللحظة اللامحدودة, التي تحمل السّرّ الدّفين, في حلقة سمة الإستمرار في كنه إنتعاش الحياة... 
من ذلك المغمور, تنطلق الخيوط الفضّيّة, بالإهتزازات الأثيريّة, لتتوالد الأحاسيس, و تتكاثر المشاعر, و تقترن ببعضها, فعل مودة و رحمة, فتنهمر من السّحب الفكريّة اللامتناهية, معالم جرأة البوح, إنهمار المطر فوق الأرض العطشى... فعل قداسة في الحب و حركة طهارة في العشق عند الكاتبة الجزائريّة الموسومة قدرًا آخر " زروالي فتيحة"...
الكتابة الصّادقة كما قداسة الحب و طهارة العشق… سِرّ من أسرار الله تعالى, أودعهما في قلوب النّاس, من ذكر و أنثى, أكبر من أن يعرّفا بحروف أو كلمات أو أقوال أو قصائد أو خواطر, و أوسع من أن يحدّا بكتاب, أو موسوعة... أو حتى بترجمة مادّيّة, أو يحصرا بمشاعر رقيقة... و نبقى عاجزين عن أيفاء الحب بنبضه العارم, و الإخلاص لنبضات القلوب العاشقة, و الدّخول إلى حنايا القلوب, و الإبحار في شفافيّة الرّوح, و التّحليق في طور الحب و عالم العشق و سحرهما اللانهائي, خارج حدود الزّمان, و أبعد من محدوديّة المكان, و من الصّعب إعطاؤهما حقّهما من الجمال, و العذوبة, و التّسامي, و اللوعة, و الحق, الخلق و الجنون... لأنّهما هما حركات أفعال الإبداع و الخلق و الجنون و الكتابة و التّجلّي الأشفّ عند الكاتبة التي تتماهى قدرًا محتومًا بإسم " زروالي فتيحة "...
من هنا، من هذا المنطلق الرّوحي، الإنساني، ينهمر الإبداع, و بإنهماره تتجلّى لوحة الفنّ الآخر في كتابات الكاتبة " زروالي فتيحة "واضحة المعالم, ترسم الوجه الآخر, في حروفيات كتابيّة, كما اللوحة الفنّيّة التّشكيليّة, قطعة موسومة في نقاط و خطوط و ألوان و أشكال كلمات و قصائد, تعكس المعاناة بكلّ شفافيّتها و عذوبتها... ففي تلك اللحظة الخاطفة, حيث يرتسم البوح, فعل إنهمار الوحي من كنه البعد الآخر, مبتدئا من عمق الخيال, ماضيَا في تدفّقه, عبر موجات الأثير الفكري في حركة تأجّج من نوع آخر, تشقّ طريقها في ثنايا الضّوء الفضّيّ للمعرفة و الوعي, نحو حدود تلمّس الإشتياق من وحي الأحاسيس, وصولا حتّى مصبّ المشاعر في حنايا النّفس, لتحرّك خلجات الفؤاد, فإذا النّقاط و الألوان و الخطوط حروف ومضات بارقة تتمازج لتؤلّف اللوحة الكتابيّة الفنّيّة المميّزة, في رحلة تحوّل عبر مراحل الخلق و الإبداع, لتصنع العبارات الموسيقيّة بالرّؤى المتموّجة بين ذبذبات الحروف و توزيعها في مشهديّة اللوحة الكتابيّة النّثريّة و الشّعريّة للكاتبة " زروالي فتيحة "...
و هكذا مقولة السّمفونيّة المتفاعلة, تومض في أرجاء فضاءات الذّاكرة الإنسانيّة, تحرّض البوح الفنّي للحروف في تدفّق غزير, يندفع بقوّة السّحر, نحو ملامس الفراغ المطلق, عند حدود الاشتياق الأقصى, ليجتاح كل المظاهر المعلومة, حتى تصل الوحدات الوامضة بالأسرار, إلى حنايا النّفس, و تذوب في شغاف القلب, فتحرّك الخلجات الهائمة, في مطاوي الفؤاد, لتولد اللوحة النّصّيّة الفنّيّة قصيدة سمفونيّة, من رحم الأحاسيس و المشاعر, من رحم الحب الأقدس و العشق الأطهر, عند الكاتبة " زروالي فتيحة "...
فالحبّ قداسةٌ تتألّق في كتابات " زروالي فتيحة " و نبضاتٌ كونيّةٌ, و خيوط فضّيّةٌ, و ذبذبات ماورائية موغلة في اللانهائي, مشدودة من نبض الفصول, مخضرّة الأوراق من تفتّح الزّهور, و تفتق الورود , لترسم ماهية الحياة, سرّ الوجود في نثائر و خواطر وترانيم الكاتبة " زروالي فتيحة "...
الكتابة سرّ الله الدّافق, الجارف, المتأجّج دوما في حنايانا, القوّة الخارقة, التي تحوّل قلوبنا إلى جمر... السّلطة القاهرة التي تحوّل عيوننا إلى قناديل, و السّحر المميّز الذي ينقل بسماتنا إلى أقمار , و وجودنا المادّيّ إلى طاقة معطاء دون قيد أو شرط... فتولد اللوحة الكتابيّة الفنّيّة قصيدة شعريّة أو قصيدة نثريّة تتماهى بإسم " زروالي فتيحة "...
تلك اللوحة الكتابيّة الفنّيّة بكل معالمها, و رغم الألم اللذيذ الذي تعانيه الكاتبة " زروالي فتيحة "، تنثر من عناصرها وجع الشجوّ العالق في أوتار الأحاسيس, الذي يضمّخ حركة إهتزاز المشاعر, بعبق اللون, لتنهل قريحة الكاتبة من مكامن الذّكريات, خواطر الماضي, في أفق الحاضر لرسم معالم المستقبل... فإذا الكون بإمداداته المتّسعة و فضاءاته اللامتناهية في متناول الكاتبة " زروالي فتيحة " لتقدّم لوحة أعماقها على صفحة من ضوء مرسومة بالحروف و الكلمات و المقاطع... و بقدرة عجيبة تجترح فعل إلتماس البعد الفنّي لبناء هرميّة النّصّ في قصيدة نثريّة في مكانها و زمانها المناسبين... هذا الوحي العجيب الذي يخلقه الإفتتان بالأشياء, له القدرة على تحويل الأحاسيس إلى صور لها خصوصيّة تعكس فعل التّفرّد في منهجيّة التّعبير, عما يجول في النّفس, من إنفعالات شتّى تفتح النّوافذ على مساحات الرّؤى الفكريّة الفنّيّة, أمام ناظريّ الكاتبة، و كلّما إزدادت تلك الأحاسيس، بفعل حركة الحبّ الرّحويّة, كلّما كانت الولادة الكتابيّة الفنّيّة...
حركة الكتابة, نرشف من معينها, و نرتوي بلقاء الحروف و الكلمات مع الفكرة, و نجن بالكتابة كلّما سمونا بها صعدا نترقّى معها و بها... فالتّأليف الكتابي بكافّة أشكاله و ألوانه و فنونه قصائد حب و عشق, و تبقى اللعبة الفكريّة الكتابيّة تقضّ مضاجعنا, تسرقنا من أنفسنا, من ذواتنا, من هدأتنا, من سكوننا, تفتح جروحنا, تفلج أنيننا, تضمّخ حياتنا بالآهات الحرّى, فتبارحنا قوانا, و تجافينا كينونتنا, و تغيب عنّا كلّ اللغات لتسود لغة الكتابة, فنحبوا أمام النّصّ, كما الأطفال, ننحني للحروف و الكلمات بخشوع, و نستسلم لرحلة الفنّ الأدبي دون مقاومة, و ننقاد في دروب الرّسم, نغنّي الجمال طوعا, نعزف على شعيرات الرّيشة هياما في المدى, حيث لا زمان, و حيث لا مكان, و حيث لا أحد, و حيث لا ألم, و لا ضيق, و لا قسوة, بل عالم آخر... عالم الفنّ الأدبي الرّحب, المتضمّخ بالجمال, بالسّحر و بالحبّ و الحنان و المودّة و الرحمة...
في هذا الجو الآخر من العطاء, كلّما سمت النّفس, كلّما إرتقت و زادت لديها, زادت الإمكانيّة المعطاءة لدى الكاتبة " زروالي فتيحة "و إزدادت قدرتها على الإنتقال من فعل التّصوير إلى فعل الرّسم إلى فعل النّحت على جدران القلب بالحروف العاشقة و الكلمات الحالمة و النّصوص الهائمة...
ففي رحاب عالم الفنون الكتابيّة, تتبرعم من نسغ الخلق و الإبداع, معالم فنّ تشكيليّ أدبيّ آخر, فن هو إمرأة أتت من رحم حوّاء، تخرج بوشاح الكتابة و النّظم, و تجوس بلوحتها الكتابيّة متاهات الحلم, لترسم الغد المأمول, في إندفاع من جوهر معيّن, يحمل كلّ أشكال الخصوصيّة الأنثويّة في حروف و كلمات و لوحات و مشاهد كأنّها أناشيد و قصائد و منظومات للكاتبة المبدعة "زروالي فتيحة " تتجلّى في ومضات فكريّة تشكيليّة تحاكي الخواطر الموسيقيّة العذبة و اللطيفة...
في تلك الحالة, من ماورائيات الخيال, تتجسّد معالم الخلق, و ترتسم حالات الإبداع عند الكاتبة " زروالي فتيحة " من فعل حركة الإلهام, و يتشكّل الوحي, لتتحوّل أثيريّة المشاعر و الأحاسيس, إلى حروف و كلمات و خواطر عاشقة, تتحوّل بحكم الحبّ و العشق, الحب المطلق, إلى ورود مختلفة الألوان, متعدّدة الأشكال, تغدو في المكان و الزمان, فعل مزارات مقدّسة, لفراشات الفرح الزّاهية, اللاتي ولدن من ألوان الطّيف... فإذا الكلمات الفنّيّة اللونيّة الولهة, تتزاوج في العبارات العاشقة, الهائمة في فراغات الرّوح, و ثنايا النّفس, لتصطبغ بحركة الرّؤى, المتموّجة بحكم الجاذبيّة البشريّة, بين الفضاءات الفكريّة, و المعالم المعرفيّة, المتوالدة من كنه الأحاسيس و المشاعر... تلك الهائمة طوعا, بين ثنايا الأثير, لتفصل بين مظاهر النّور و الظلام, و تفرّق بين معالم الحق و الباطل, و تميّز بين فعل الواقع و حركة الخيال... في عالم الفنّ الكتابي, الذي هو عالم الحبّ الأسمى, في رؤى الكاتبة الجزائريّة " زروالي فتيحة "...
هذا الفنّ الأدبي, سمفونيّة أبديّة صادحة, خالدة, و أغنية جميلة مملوءة بالأشواق, عميقة الحنان, بعيدة المودّة, تنضح بالسّحر و الجمال... و هذا الفنّ الأدبيّ, هو الرّغبة الصّادقة في إمتلاك السّعادة, و هو سلامة النّفس في أعماق الأبديّة, و هو العلم الوحيد الذي كلّما أبحرنا فيه نزداد جهلا... و هذا الفنّ الأدبيّ يعتبر أقدس حقوق النّفس البشريّة, و أقرب الأشياء إلى الرّوح الإنسانيّة, و هو الحلقة الذّهبيّة التي تربطنا بالحقّ, بالله, و بالحياة, و بالأيمان, و بالوجود, و بالجمال, و بالواجب عند الكاتبة " زروالي فتيحة "...

والكاتبة "زروالي فتيحة" لا تختلف عن غبرها من الكاتبات و الكتّاب, إلاّ بكيفيّة مشاهدة الحدث, و كيفية مشاركتها فيه, و كيفيّة تحليلها له, بطريقة خاصّة, و صياغته بشاعريّتها النّثريّة و أسلوبها الخاصّ, و بالتّالي نقل الصّور المتعدّدة, إنّما بأسلوب فنّيّ أدبيّ خاصّ, و إحساس شعريّ مرهف, مع ما تضفي على كتاباتها من واقع موهبتها الفنّيّة الفكريّة, و خبرتها الحياتيّة المديدة, و ثقافتها الشّاملة, و سرعة خاطرها, لتزيد على النّصّ بعضا من روحها و فلسفتها و براعتها و نباهتها, فإذا عناصر القطعة الكتابيّة, تعكس صدق النّفس, و صدق الرّأي و الموقف, بإرادة واعية, وجرأة واضحة للوجود و الحياة و الحب...
"
زروالي فتيحة " كاتبة من وطني العربيّ الممتدّ, من بلاد الجزائر, تلجّ عالم الفكر و الكتابة بقوّة, لتكحّل العين بالجمال النّصّي, و تنقر الفؤاد بألوان أدبيّة فلسفيّة تحليليّة صارخة أشبه بالجمرات, و تسكب أنفاسها في لوحات أدبيّة فنّيّة شاعريّة, و تلد تأوهاتها إبداعا, و تسجّل نبراتها و نبضاتها فعل مشهد ساحر, و ترتّل بعضا ممّا تكتب و ترسم و تشكّل, و تغنّي خواطرها الملتهبة بالمعاناة و ثقل الموروثات و قيود الأعراف و سلاسل التّقاليد، في كلّ متناغم...
الكاتبة " زروالي فتيحة " تشرب من معين العذوبة الفكريّة, و تغرف من منابع الخلق و الإبداع, حيث تستغني القلوب النّقيّة, تبتغي حقّ الوجود, تروم إثبات الذّات الأنثويّة, تطمح لتأكيد المناقب النّسائيّة, ترنو لمساحة واسعة من الأمل المرتجى, من خلال التّطلّع و الطّموح الفكري الشّاعري الفنّي, و الذي تتعاطى مع عوالمه كنسغ الحياة, تصنع منه إنتفاضة الفكرة في رحم التّكوين العقلي لوحة خواطر فنّيّة ساحرة... 
الكاتبة " زروالي فتيحة " شاءت في خواطرها الفكريّة, أن ترود خيمة الفنون الكتابيّة, من مضارب الفعل الحرّ, لترتدي عباءة الخلق و الإبداع, و هي تجوس الفكرة تلو الفكرة, في سرادقات الأحلام للغد المأمول... لتصل في محاكاتها الأثيريّة الشّفيفة, إلى أبعد ممّا تحمل الصّور الفنّيّة في مضامينها الكتابيّة, و ما تحوي في طيّات عناصرها الحالمة بالغد المأمول... المبحرة في فضاءات الرّؤى ألى الآتي على صهوات الآمال المرتجاة...
"
زروالي فتيحة " الكاتبة الجزائريّة المغمورة وراء خمار التّقيّة التي لا بدّ منها في مجتمع الأمس المتعصّب و المتحجّر, تحملنا في خواطرها و أفكارها إلى عالم الفنون الأدبيّة, بقلم فنّيّ نابض, فيه قوّة التّصوير, و منطق السّحر... بحيث تؤرّخ للفنّ الأدبي, و تبادر في سجالها و نضالها و وصالها, و تحدّق من خلال لوحاتها و خواطرها في الأقاصي لأجل رؤية جديدة, و لأجل أمل مرتجى, تحاكيه و يحاكيها من وحي الحروف و الكلمات و الخواطر... فإذا بها تسجّل خلجات النّفس في معالم البوح الحالمة, و ترصّع الأيام بنغمات الكلمات, في أغنيات نصّيّة جماليّة عابقات بالحبّ و الحياة, و تعزف على أوتار القلب خواطرها و جنونها الكتابي, فإذا الذّات الإنسانيّة في حالة إهتزاز طربا, لمشهديّة الخواطر التي تجسّد شفافيّة الرّوح عند الكاتبة " زروالي فتيحة " و تؤكّد صدق الذّات في عبقها, راسمة حقيقة النّفس في رومانسيّة معيّنة, تأتلق مع عمق المشاعر الكامنة في خفايا الحنايا, الممزوجة بخلجات الفؤاد, الرّاقصة بزهوّ على إيقاعات الحروف و الكلمات و الخواطر, التي تغنّي فيها للحبّ و العشق و الحياة, تترجم صور الأحلام إلى واقع ملموس, و تحقّق الرّؤى و الآمال في حقيقة تحاكي الآفاق البعيدة...
تتجاذبنا حروفيات و خواطر الكاتبة " زروالي فتيحة ", بحكم الحب بينها, في منظومة التّعبير, و تتناهى إلينا حركة الفتنة من فعل الإقتران بين الخواطر و الذّات على ذمّة العشق الفنّي, لتتولّد اللوحات الكتابيّة على وقع اللحن الأثيري, و سمفونيّة الأصوات الصّامتة في البعد, فيتجسّد الفنّ الأدبي, و ينتقل من فضاءات الخيال الفكري, ليرتسم في تشكيلة, فوق مساحة من الأمل المرتجى, و تتألّق معالم القطعة, في معالم التّجريب... و التّعوّد على معايشة العناصر الفكريّة ذات المدلول الإبداعي المميّز...
أتحسس الكاتبة " زروالي فتيحة " تسكن الحروف و الكلمات و الخواطر, بحكم محاكاتها الرّوحيّة في ذلك العمر الكاعب, للأبجديّة الفنّيّة المعشوقة من ذاتها, المبحرة في نفسها... تراودها تشكيلة الفنون الأدبيّة, و تحاكيها صور التّشكيلات الصّحافيّة, على فعل جماليّة المعنى, ليتوافق مع الجوهر...
الكاتبة " زروالي فتيحة " بحكم إئتلافها مع المنظومة الفنّيّة الأدبيّة, و محاكاتها رنين المنظومة الحروفيّة, في آفاق فضاءات الخلق و الإبداع... و بحكم التّآلف مع لغة التّعبير, تسكنها القطعة الكتابيّة, في مكنون معانيها, و تجعل من نفسها, و أحاسيسها الدّفينة, في غياهب وجودها, سرادقا خاصّا لها, و تجعل من أثيريّة روحها, الهائمة في ملكوت الله, مأوى لها...
الكاتبة " زروالي فتيحة " في تلك الومضات الكتابيّة و التي كأنّها للوحات تشكيليّة فنّيّة... تبدو محكومة بالتّفاصيل و العناصر, محكومة للنّصوص... بحيث أنّها تجري معالمها في ذاكرتها, مجرى الدّم في عروقها, لا تبرحها, و لا تغادرها, أو تفارقها, و تحرّضها عناصرها الفنّيّة على نفسها, فتصبر و تصطبر...
في مجموعتها الكتابيّة المختلفة, تبحر الكاتبة " زروالي فتيحة " في فضاءات الوجود, تشق عباب الحياة, تحاكي موج العيش, شراعها الخواطر للوجود و الحياة و الحب...
و من خلال كتاباتها المتعددة, تحملنا على صهوة أجنحة الخيال, نمتطي معها السّحر البهيّ, الموصل بنا إلى عوالم, تمتزج فيها الأحاسيس و المشاعر, مع الكلمات و الخواطر السّاحرة, النّابعة من صميم إمرأة كاتبة, تمرّست بالكتابة الحرّة و التّأليف, لتنتقل بنا في معالم خواطرها, إلى معالم الإنبهار أمام أجمل النّصوص, تشكلها الكاتبة " زروالي فتيحة " و كأنّها قطع قدّت من عالم آخر في لوحات فنّيّة مشهديّه كتابيّة نصوصيّة, رسمت بأنامل سحريّة... تأخذنا إلى أبعد من الإطار و الشّكل و المحارف و الكلمات, في محاكاة روحيّة, تحملنا إلى عالم السّحر و الجمال و الحقيقة التي تتختفي خلف الخافيات...
الخواطر عند الكاتبة " زروالي فتيحة " تمتزج فيها أحاسيس الوجدان بعبق النّفس, لتعزف على أوتار القلب, ألحان الحياة, في حركة جموح و ثورة, تعكس فعل المعاناة, عند فنّانة تتنفّس الفنّ, و تتحدّث إليك بالفنّ الكتابي, و تتعامل في يوميّاتها مع النّاس بالفنّ الكتابي عبر صفحتها الفيسبوكيّة... بحيث ذاكرتها الفنّيّة, تهيم في عالم آخر, لتستجلي سرّ الحياة, و تجتلي معنى الوجود, فتبحث و تنقّب و تفتّش متلهّفة للون أدبي مميّز, متشوّقة لفكرة ما, تقطف من الأبجدية الفنّيّة حروفها , تستكشف العقل الباطني, تتقلّب في عالم الأثير, تستلهم الخيال, تتحدّى الزّمان, تستقرئ المكان, تنقش في تاج الأيّام, خلجات نفسها الحالمة, ترصّع صولجان العيش, نغمات الحروف, و ترانيم الخواطر, في مشهديّات ساحرة الجمال, عابقات والهات, تعزف بها على أوتار الرّوح... فتهتزّ الذّات الإنسانيّة, من ومضة نفسيّة, و ترتعش النّفس البشريّة, من بارقة شكليّة, تروي أمتع البّوح في روايات كتابيّة, لترسم أبدع الحكايات, و ترسم أسمى الأمنيات, في رومانسية الحياة, متضمّخة بأطيب الأنفاس, و أحر الهمسات...
مسارات الكاتبة " زروالي فتيحة " ترتسم فيها صورة تجديد الحياة, و إنبعاث الحركة في كنه الأشياء, و بالرّغم من الإحساس بالضّمور, و الشّعور بالإحباط... تعود الكاتبة في لعبتها إلى الإلتفاف على بنات الأفكار, و تعمل على إستقطاب الحلم من كنه الرّؤى على أمل اللقاء, راسمة لوحتها الفكريّة المفضّلة بالحروف و الكلمات و الخواطر, مصّورة معاناتها في متاهات الحياة, طامحة في جموح دفين, يدفع بها إلى التّطلّعات المستقبليّة, التي تجسّد لها إمكانيّة التّواجد الفعلي, و التي تخلق لها إمكانيّة اللقاء مع عذراء خيالاتها, فعل إنسكاب الألوان الفكريّة في بوتقة عناصر اللوحة الكتابية , وفعل انسياب الخواطر في مجرى الأفكار , ترسم لذة الإبداع في اللوحة الكتابيّة على مساحة ما, في مكان ما, و في زمان ما, فعل ديمومة و كينونة لإقتران الأشياء و إستمراريّة الحياة...
ففي العملية الإنتاجيّة, على مستوى الإبداع, و بالرّغم من الوجع الذي يلمّ بالكاتبة, و الألم الذي تعانيه, فإنّها في محاكاتها الأثيريّة, يقدّم النّصّ في لوحة إبداعها, كجزء من أعماقها, مجسّدة على صفحة من شفافيّة روحيّة, موقّعة بالحروف, مرسومة بالكلمات, مشكّلة بالخواطر, و بقدرة متمايزة, و قوّة عجيبة, تؤكّد على فعل التّماس الفكرة السّحريّة, في موقعها الملائم, و تحديد البعد الأخر, للوجه الأخر, في محوريّة بؤريّة, تركز عموديّة السّمت الرّأسي, في المكان و الزّمان المناسبين, المتطابقين بين الرّؤيا و الواقع... و هي الشّفافيّة الرّوحيّة التي تتمتع بها الكاتبة " زروالي فتيحة "...
الكاتبة " زروالي فتيحة " المبحرة في عالم الفنون الأدبيّة, العابدة في محراب الكلمة, تقيم صلواتها الكتابيّة في محراب الكتابيّة الموضوعيّة, تترنّم في سيمفونيّاتها الفكريّة العابقة بالطّيب و الحب و الجمال, تهديها للوجود و الحياة و الحب و الناس... تجسّد شفافيّة روحها في لوحات كتابيّة فنّيّة, في وجدانيات من الفنون الأدبيّة, لتؤكّد صدق الذّات في خلاصة الكلمات و الخواطر , و ترسم حقيقة النّفس في رومانسيّة أثيريّة, تأتلق من عمق الأحاسيس, و حقيقة المشاعر, الكامنة في خفايا الحنايا, الممزوجة بضربات الفؤاد, على إيقاع الحب, و العشق و الهيام و الحياة,لترجمة صور الأحلام, إلى واقع ملموس, و تحقيق الرّؤى و الآمال, في واقع يحاكي الآفاق و الطموح...
الكتابات المختلفة للكاتبة " زروالي فتيحة " هي تجسيد ديمومة, و توكيد قدرة في حياة الكاتبة، المبحرة في رؤى الوجود و الحياة, من أجل الوجود و الحياة... تكتب الوجود في وجدانياتها... و تشكّل الحياة في خواطرها... فتأتي ملوّنة, بألوان الوجود و الحياة و الحب الذي تحيا فيه, و تعيش دقائقه الكاتبة " زروالي فتيحة " المتعملقة بفنونها الكتابيّة من ربوع وطنها الجزائر لتتوامض لامعة في آفاق العالم من قلب برمجيات التّواصل الإجتماعي " الفيسبوكيّة" تحمل إبداعاتها و كتاباتها التي تعكس معاناتها في مجتمع بيئتها...

السبت، 19 سبتمبر 2015


السّيل العظيم و مصائب بعلبك

بقلم: حسين أحمد سليم

حدّثنا التّاريخ على ذمّته، ناقلا لنا على لسان بعض المؤرّخين، توصيفا للسّيل العظيم، الذي إجتاح مدينة الشّمس بعلبك، و الذي حدث في يوم الثّلاثاء الواقع في السّابع و العشرين لشهر صفر من سنة 717 للهجرة، الموافق للعاشر من شهر أيّار من سنة 1318 للميلاد...

في هذا التّاريخ، المشار إليه، كان المصاب الأليم في مدينة الشّمس بعلبك، بسيل هائل و عظيم، أتى على أحياء المدينة من الجهة الشّرقيّة، فخرّب ما في المدينة، و أهلك من أهلها عددا غفيرا، و تراكم على السّور فدفعه، و طفحت المياه على المدينة، فخرّبت منها ما ينيف على 1500 بيت، و دخلت الجامع، فخرّبت بعض جدرانه، و رمت المنبر، و بلغت إلى رؤوس العمد، و وجدوا فيه الشّيخ علي بن الحريري غريقا و معه جماعة... ثمّ إندفعت بقوّة نحو البساتين، فأتلفت فيها شيئا كثيرا، و لم يزل المكان، الذي أتت منه المياه، يدعى " وادي السّيل " إلى الآن...

و كان الوقت بين الظّهر و العصر، في اليوم السّابع و العشرين من شهر صفر لسنة 717 للهجرة، حيث أرسل الله سبحانه و تعالى، سحابة عظيمة من الغيوم الدّاكنة و الملبّدة، حجبت السّماء و نور الشّمس، و كانت ذات رعد قاصف، و برق وامض، و مطر غزير، و بّرَد كثيف...

فسالت من هذه العاصفة القاصفة، المياه العظيمة في الأودية الواقعة شرق بعلبك، و حملت بجريانها الهادر المخيف، ما مرّت عليه من الصّخور و الحجار، و الكثير من الأشجار إقتلعتها، و كروم العنب التي خرّبتها و جرفتها، و غيره من أتى بدرب مجراها...

و ما أن وصلت تخوم  المدينة من الشّرق، حتّى إفترقت على البلد فرقتين، فرقة على النّاحية الشّرقيّة، إلى جهة الجنوب (القبلة)... سالت حتّى إنتهت إلى النّهر، و إجتمعت ببحيرة عظيمة على السّور، حتّى كادت تبلغ شرفاته إرتفاعا... و تزايدت عظمة و إفزاعا، فلطف الله و ثبّت السّور ، و تصرّفت مع جريان الماء، و لم يحدث بحمد الله تعالى كثير أمر...

و الفرقة الثّانية من السّيل، تدفّقت بقوّة إلى البلد، ما بين باب دمشق و باب نحلة، شرقي المدينة إلى جهة الشّمال... و إجتمعت هناك على السّور، و ثقلت عليه، فخرقته بمساحة طويلة تجاوزت الأربعين ذراعا، مع أنّه محكم البنيان، مشيّد الأركان، و حصل ما يليه من صدوع، مع أنّ سمكه خمسة أذرع...

و دخلت مياه السّيل العظيمة البلد، و طغت المياه، فأخذت برجا عرضه من كلّ جانب، خمسة عشر ذراعا، حملته على حاله، لم ينتقض، حتّى مرّ فسحة عظيمة نحو خمسماية ذراع من الأرض...

و أخذ السّيل في البلد إلى جهة الغرب جاريا بعنف، فما مرّ على شيء في طريقه إلاّ وجعله خرابا و خاويا، و لا شاخص من البناء، و لا غيره، إلاّ و جعله للأرض مساويا... فأخرب المساكن و البيوت، و أذهب الأموال، و غرّق الرّجال، و الحريم، و الأطفال، و أثكل الأمّهات و الآباء، و أيّم الأزواج، و يتّم الأبناء...

ثمّ لم يزل يندفع بقوّة، حتّى دخل الجامع الأعظم و المدرسة التي تليه، فإنجزر به حتّى كاد يبلغ العمد بتناهيه، فأتلف ما فيه و أخرب و غرّق، و أزعج القلوب و أقلق... و إنفجر على الجدار الغربي من الجامع فهدمه...

و أخذ ما مرّ عليه من البنيان، حتّى بلغ خندق القلعة، فخرق من سور البلد الغربي الملاصق لها مقدار خمسة و عشرين ذراعا، و خرج من البلد، فما مرّ على بستان إلاّ و أجابته أشجاره سراعا، و ما قيل يا أرض ماءكِ إبلعي، و يا سماء إقلعي... حتّى صارت ذوو المساكن و البيوت على الطّرقات، و أصحاب الأموال يستحقّون الصّدقات، و تهدّمت المساجد و تعطّلت الصّلوات...

و قد جرى في هذا اليوم الغريب العجيب، ما لا يُحصى و لا يُعدّ، و من الغرائب ما لا يُوصف و لا يُحدّ... و قد أخبرت الثّقات، أنّه نزل من السّماء عمودٌ عظيمٌ من نار في أوائل السّيل، و رؤي من الدّخان، و سُمع من الصّرخات في الأكوان، ما يُضعف في الحيل، و يزيد في الويل...

و فيسنة 803 للهجرة الموافق لسنة 1401 للميلاد، إبتليت مدينة بعلبك بمصاب آخر، فبعد أن صبّ الطّاغية تيمورلنك ويلاته على حلب قصد دمشق، فمرّ في بعلبك، و لم يلتفت لأهلها الذين خرجوا إليه طالبين العفو و السّلام، فبعث بجنده، فنهبوا المدينة و خرّبوها...

و في سنة 922 للهجرة الموافق لسنة 1516 للميلاد، صارت مدينة بعلبك إلى ساكن الجنان، السّلطان سليم الأوّل العثماني، بعد أن فتح سوريا، و نزع يد سلاطين مصر من المماليك عنها...

ثمّ دانت بعلبك و قراها لحكم الأمراء بني الحرفوش، الذين كانوا من البأس و السّطوة و الفروسيّة في مكان عظيم... أستوطنوا المدينة، و كانوا من أعظم الأعيان فيها، إلى أن تيسّر لهم الإستقلال في المدينة و أقاليمها، و بلاد البقاع في أواخر حكم سلاطين مصر من المماليك، فسادوا و حكموا بعدالة في البداية، و كان لهم بصمات مميّزة في البناء و الأدب و الفقه و نشر السّلام و الحقّ بين النّاس... ثمّ تسلط بعضهم على الرّعيّة و أموالها و ممتلكاتها، فإقتطعةها خمسماية عام، فظلموا و عتوا في بعض النّواحي، فساء حالها و تقطّعت أوصالها، لحين كُفّت أياديهم عن المدينة و توابعها...

و في سنة 1664 للميلاد، و في سنة 1759 للميلاد، كانت زلزلة عظيمة، هدمت جانبا كبيرا من القلعة في بعلبك...

و في 30 أيلول من سنة 1901 للميلاد، هطل الغيث مدرارا في بعلبك، و كان سيل عرم، خرّب سوقها، و قوّض عدّة من بيوتها، و هلك فيه البعض من النّاس، و الكثير نفق من المواشي،...

و كانت بعلبك على جانب عظيم فيما مضى، ثمّ وصلت إلى درجة من الحطّة و الدّعة، حيث أنّ الأقدار جارت عليها بالمصائب الطّبيعيّة، و حاقها الظّلم من الحكّام الذي توالوا عليها، و الذي قام مقام العدل و الأعنّات في الرّعيّة، أدّى إلى الإختلال... ثمّ نالت بعلبك قسطا من الرّاحة، و أخذت في التّقدّم و التّوسّع، حتّى وصلت إلى ما هي عليه الآن...

الخميس، 17 سبتمبر 2015


عصرنة أخلاقيّة

 بقلم: حسين أحمد سليم

إزدحام السّير على أكثريّة الطّرقات العامّة و الرّئيسيّة و الفرعيّة، و حتّى في الأزقّة بين بيوت الأحياء الشّعبيّة، و الأحياء الأكثر تمدّنا...

و تعاظم الإزدحام عند التّقاطعات المحكومة بإشارات المرور الضّوئيّة الآليّة و الرّقميّة، هذا إن كانت فاعلة و ناشطة ببركة وجود الكهرباء، و الطّامة الكبرى إن كانت متوقّفة تحت رحمة إنقطاع الطّاقة الكهربائيّة...

وتبرز حركة فعل الإزدحام عند الإنعطافات و الدّوّارات القاسية الإلتفافات، وعند إنحناءات الجسور و ضيق مساربها، و عند متاهات الأنفاق المعتمة الإضاءة، و التي تغرق بالمياه شتاءً، لسوء في صيانة قنوات التّصريف...

و حدّث و لا حرج عن الإزدحام، قرب بعض الأبنيّة الخدماتيّة الرّسميّة و التّربويّة، و أمام أبنية الوزارات و البلديات و ما شابه، و الإدارات التي تتعاطى الشّأن العام...

هذا و للإزدحام تشكيليّاته السّورياليّة و التّجريديّة، في الشّوارع المحاطة الجانبين بالمحلاّت التّجاريّة، و أما المطاعم و المقاهي، و سيّارات تناول الوجبات السّريعة من السّندويشات و الكعك المزعتر، و القهوة و الشّاي، و المتواجدة عند جوانب الطّرق أو تحتلّ جزءًا من عرض الطّريق بغير وجه حقّ، تحت غطاء من الدّعم السّياسي أو الحزبي أو العشائري...

و للإزدحام حالته التي تتطلّب الصّبر الذي يفوق صبر أيّوب، عند حواجز المراقبات الأمنيّة الرّسميّة، و الحواجز الحزبيّة المشودرة بلباس عام تحت عناوين مفتعلة، و حركة التّفتيش عن الممنوعات، و فعل التّدقيق في هويّات المارّة و ركّاب الحافلات و سيّارات الأجرة...

و يدفعك الإزدحام إلى حرق الأعصاب عند حركة تضييق الطّرقات، و إقفال بعض المسارب، و فرض الجزر الأمنيّة، بمحيط بعض السّفارات و القنصليات، و أماكن سكن القيادات السّياسيّة و الحزبيّة، لتصطدم بمكعّبات من الإسمنت المسلّح، والتي تتشابه في الشّكل و كأنّها أنصاب و مسلاّت و تماثيل سورياليّة و تجريديّة، ناهيك عن المصلّبات الحديديّة المضافة...

الإزدحام أمر طبيعي، عايشناه كرها رغما عنّا، و عايشنا قهرا لنا، و غدا مسلسلنا اليومي صباحا و ظهرا و مساءً، و إعتدنا عليه مع غياب وجود المواقف العامّة و مرائب السّيّارات...

و للإزدحام قهره لنا شئنا أم أبينا، مع سوء التّدبير و التّنظيم و غياب من لهم المهامّ التّكليفيّة في هذا المجال، إلاّ ما قلّ و ندر...

وعلاوة على ما أوردنا البعض من أشكال الإزدحام، تبرز همروجة مزاجيّة و سوء أخلاقيّات همجيّة الكثير من جمهرة و زمر القبضايات المتنافخة بمرجعيّاتها التي على شاكلتها... إضافة للعديد من قرطة إمّعة بعض الأحزاب و بعض التّنظيمات و بعض الحركات و بعض التّيّارات... ناهيك عن ماسحي الجوخ لغايات يحاكوناه، و لأبّهيات مرافقي بعض الرّجالات السّياسيّة و الدّينيّة...

و ممّا يزيد في سوء الإزدحام، و على هذه الأنماط و الطّرز، من سوء الأخلاقيات الميدانيّة على الطّرقات و أرصفتها... و سيّما إزدياد الحالة سوءً، في المدن و البلدات الكبيرة و ضواحي المدن، مع بدايات العام الدّراسيّ في المدارس و المهنيات و الجامعات، في بدايات فصل الخريف من كلّ عام في وطننا لبنان... و هو ما يساهم بشكل كبير في هدر الوقت بغير طائل، و الإزدياد في إستهلاك الآليات و المعدّات و السّيّارات... و كذلك ضياع الطّاقات البشريّة، من دون إفادة في دفع عجلة العطاءات المتوجّبة، وفق التّكاليف لكلّ منها... عدا عن تعاظم حالات العصاب في ظلّ مثل هذه الإزدحامات... ممّا يؤدّي في بعضها إلى المشاجرات على أفضليّة المرور، أو التّوقّف في أماكن معيّنة، أساسا غير مسموح التّوقّف بها... و قد تكون النّتيجة تطاول و إعتداءات و مظالم و عراكات، و إطلاق نار من بعض العنتريات العصريّة، المدعومة سياسيّا أو حزبيّا أو عشائريّا أو من الأكواع المخالفة... ينتج عنها جروح و كسور و إعاقات دائمة، ناهيك عن الوقوع في حبائل جرائم القتل، ثأرا لغرور و تنافخ فارغ و في غير مكانه، و لا يمنح صاحبه إلا الشّتائم و اللعنات والتّحقير، عدا عن إيداعه السّجون، إن إستطاع رجال الأمن القبض عليه، قبل أن يفلت و يختفي عن الأنظار، محتميا عند من هم على شلكلته، من بعض الأقطاب العشائريّة أو الحزبيّة أو السّياسيّة، تمهيدا لفراره خارج البلاد إن إستطاع عبر بعض المسارب، و لم يقع في شرك القوى الأمنية التي تعمل ساهرة على أمن الحدود البريّة و البحريّة و الجويّة...

ما يلفتني مع كلّ صباح و مساء، و أنا أقطع بعض الطرق بضواحي مدينة بيروت، وصولا للإلتحاق بعملي في المدينة، و عودة إلى منزلي عند تخوم ضواحي بيروت، هو كثافة الإزدحام الخانق، بلا مبرّر فعلي، و الدّافع بالرّوح لتفيض قهرا و قسرا إلى رحاب السّماء...

هذا الإزدحام هو نتيجة، لحركات أفعال الإنفلات من أدنى مقوّمات الأنسنة، و الإقدام على ممارسة كلّ خافيات الوقاحة، و مساويء الأذواق و المزاجيات، بعرقلة المرور و التّجاوز اللا أخلاقي، بإغتصاب المرور عنوة و قهرا على الغير... مع التّفوّه الجهري اللا أدبي، بسيل من البذاءات و الشّتائم و السّباب، و التّفلّت من كلّ أشكال القوننة المروريّة، و تعريض الآخرين للإصطدامات بالمركبات، و تشويه معالم الآليات من الخارج، أو كسر نقاط الأضوية و الإشارات، بحكم خدوش الإحتكاكات من جرّاء الإزدحامات، نزولا قهريا، عند رعونة الكثير من أشباه النّاس شكلا، و أشباه ضواري الحيوانات المفترسة ضمنا...

و ما يثير قرفي و إستفراغي و إستيائي الذّاتي، و تعاظم عصابي النّفسيّ، و اللجوء إلى الجهر باللعنات على هكذا واقع فاسد أليم، تستشري فيه المفاسد الأخلاقيّة على سواها، و الذي نعيشه قهرا على قهر في مكان و زمان، لا وجود فيهما و لو بالحدّ الأدنى، لمكارم الأخلاق و محاسن الآداب، و الإلتزام بأدنى مقوّمات المناقب الإنسانيّة في حسن التّعامل على الطّرقات، و ممارسة الإحترام...

و يلفتني أولئك، الذين لا يطيب لهم، التّعامل مع الهواتف و برمجيّاتها التّواصليّة، إلاّ توكيدا مزاجيّا في عرقلة المرور عنوة، نزولا عند شهوتهم النّفسيّة الأسوأ خلقيّا، بلفت الآخرين إلى حقارتهم، بحركات أفعالهم الهواتفيّة المتعصرنة، محاكاة لنفوسهم الأشدّ سوءٍا و عصرنة، و من كلا الجنسين...

و ليس الحال بأفضل في أرحبة المواقف العامّة لسيّارت الأجرة، و حركات أفعال السّباق بين الشّوماخرات على الطّرقات، و تجاوز بعضهم البعض، بخطورة، للظّفر براكب ينتظر عند قارعة الطريق... و ليس أسقلال سيّارت الأجرة بالأنسب، بديلا عن السّيّارة الشّخصيّة، حيث سائق سيّارة الأجرة، يجبرك على الرّضوخ لمزاجيّاته، و شهواته في الدّردشة و لقلقات لسانه بما لا يفقه، وإرغامك على سماع ما يريد من مذياع راديو سيّارته، عدا عن ممارسته و بعض ركّاب سيّارته على ممارسة التّدخين، و نفث الدّخان بوجهك... 

و ما أن تصل إلى بيتك، بعد جهاد طويل على إمتدادات و إزدحامات الطّرق، تُفاجأ بأنّ أحدهم، صاحب الخلق العصريّ، قد أنتهز فرصة غيابك، و إغتصب المكان الذي تركن فيه سيّارتك، و ركن سيّارته عنوة، دون إذن أو إلتفات لملكيّة المكان، و ما عليك سوى عرقلة مرور سيّارات الآخرين، إنتظارا لمزاجيّته، إفساحا في المجال لركن سيّارتكَ، عدا عن تفوّهه ببعض الكلمات الهابطة على قدر مستواه... 

و تتراءى كلّ هذه الحركات اللا إنسانيّة و اللا أخلاقيّة و اللا قانونيّة، في بروز ذلك بمزاجيّة ممارسة كل ما يعارض بنود قانون السّير و المرور، و عند الكثير ممّن هم على شاكلة البشر... إنّما هم في الحقيقة من صنف الحمير البشريّة، النّاهقة بأنكر الأصوات، و التي تأنفها الحمير الحيوانيّة الحقيقيّة... و هنا تحضرني مقولة جدّتي لها الرّحمة: " الأتان لا يمكن أن تلد إنسان، إنّما بعض النّساء لا تلد إلاّ حمارا على شاكلة إنسان "...