الجمعة، 9 أكتوبر 2015


الفنّ التّشكيلي اللبناني

النّشأة و التّطوّر

 

بقلم: حسين أحمد سليم

كاتب و رسّام عربي لبناني

 

يعود تاريخ نشأة معالم الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة الأولى و البدائيّة إلى حقب الماضي البعيد، حيث بدأت مع الإنسان الأوّل أينما سكن و في أيّ أرض تجوّل أو حطّ الرّحال و أقام و إستقرّ لحين... مارسها وفق إحتياجاته الحياتيّة ضمانا للإستمرار بداية، و إمتهنها وفق رؤاه و علاقاته مع أقرانه فيما بعد، ثمّ ترقّى حميميّة للتّعبير عن مشاعره و أحاسيسه فإعتمدها للتّرفيه و التّسلية و حركات الأفعال الإبداعيّة و الإبتكاريّة...

 

و تطوّرت تلك الفنون التّشكيليّة عبر مراحل الحقب التّاريخيّة، و برزت مع قيام الأمم و نشأة الحضارات التي سادت ردحا زمنيّا ثمّ بادت تاركة خلفها تراثيّاتها التي تدلّ عليها و منها الفنون التّشكيليّة... و دخلت لبنان أمم و حضارات عديدة و أقامت في ربوعه أو مرّت به لأماكن أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسّط أو أوغلت منه إلى العمق قاطعة الجبال و الأودية و السّهول و الأنهار، تاركة بصماتها في مجالات كثيرة تراثيّة و أثريّة و فنّيّة تشكيليّة...

 

معالم و مآثر و تراثيّات من بقايا آثار الأمم و الحضارات، ما زالت قائمة في أماكنها فوق إمتدادات الأراضي اللبنانيّة، و ما زالت صامدة في وجه التّحوّلات الطّبيعيّة، و ظاهرة للعيان في العديد من المدن و البلدات و القرى، المنتشرة ساحلا و جبلا و بقاعا، شمالا و وسطا و جنوبا, تعكس المستوى الرّاقي و الحضاري الذي كانت عليه تلك الأمم و تلك الحضارات من رسوم و نقوش و تشكيل و أنصاب تتماهى على الجدران و الأعمدة و في الأرض على بلاطات من صخر...

 

بقايا آثار مدينة بعلبك، و معالم القرى الممتدّة من الهرمل شمالا  إلى حاصبيّا جنوبا في سهل البقاع، بلدات تُعرف بما فيها من بقايا آثار و معالم: إيعات بعامودها، شليفا بقصر بناتها، حدث بعلبك بمعبدها الرّوماني أبّولون، قصرنبا ببقايا قلعتها، تمنين بمعبدها الرّوماني الكركلّي، و بقايا آثار عنجر شرقي مدينة زحلة، و كرك نوح، و قبّ إلياس، و حاصبيّا و بلدات في البقاع الغربي، و آثار مدينة طرابلس و البلدات المحيطة بها و مناطق عكّار، و آثار مدينة جبيل و بلداتها، آثار مدينة بيروت العاصمة اللبنانيّة، بقايا آثار في منطقة بعبدا و عاليه و برج البراجنة بقلعة شعبانة، و بعقلين و المختارة و كفرحيم، و آثار مدينة صيدا بحرا و برّا، آثار مدينة صور، و أيقونات قانا الجليل في الجنوب اللبناني، و العديد من المعابد و المزارات و المعالم الدّينيّة، في بلدة شمع و الشّرقيّة و في الكثير من البلدات و القرى اللبنانيّة...

 

حركة فعل الدّرس و التّمحيص و التّعمّق في ما تبقّى من جداريات منتشرة في أماكن مقدّسة لبنانيّة، تشير إلى أنّ النّشأة شبه الفعليّة للفنون التّشكيليّة اللبنانيّة، قد بدأت مجدّدا في أواسط القرن الخامس عشر مع جبرائيل القلاعي اللحفدي، و عمليّة التّأثّر بالفنون الأوربّيّة الإيطاليّة و الغربيّة عامّة... لتنشط في أواسط  القرن السّادس عشر الميلادي، من جهة توثيقيّة تاريخيّة، و برزت على يد الشّدياق إلياس الحصروني، و هذا دلالة كافية لتثبيت أنّ حركة فعل التّصوير و الرّسم و النّحت و فنون الجداريات كانت سائدة و مألوفة في بعض الأماكن اللبنانيّة المأهولة و سابقة لهذا التّاريخ...  

 

مع حلول القرن السّابع عشر الميلادي، نشطت حركة الفنون التّشكيليّة في جبل لبنان على أيدي رهبان و فنّانين، مارسوا الفنون التّصويريّة و إشتغلوا بالفنون التّزينيّة، و نذكر منهم يوسف الباني و عبد الله زاخر... و في عهد الحكم المعني في لبنان بدأ الإنفتاح على أوروبّا، و بدا في إقامة قصر على الطّراز الفينيقي في بيروت على يد معماريين توسكانيين لفخر الدّين المعني... و في عهد الشّهابيين تمّ إستدعاء رسّام إيطالي الذي كان الفنّان الرّسمي لأمراء آل شهاب... و على يد الرّسّام الإيطالي هذا تتلمذ أوّل المصوّرين اللبنانيين و منهم كنعان ديب في أواخر القرن التّاسع عشر، حيث نشط في رسم اللوحات الكنسيّة و بعض الصّور الشّخصيّة...

 

المقدّمات الأوّليّة للنّهضة الفنّيّة التّشكيليّة تمّت ولادتها في أواخر القرن الثّامن عشر من جرّاء إحتكاك حضارة الشّرق بحضارة الغرب، و برزت جليّة من خلال مجموعة من الفنّانين اللبنانيين الذين مارسوا الفنّ التّشكيلي و درسوه بأنفسهم و إتّقنون بالتّجارب، و من خلال محاكاة و وحي ما إحتكّوا به من الصّور و اللوحات المستوردة من الغرب الأوروبّي، و في البعد الآخر لعبت السّواحل و الجبال و السّهول اللبنانيّة دورها الإيحائي، فكانت الطّبيعة الجماليّة اللبنانيّة معينهم الموحي للخلق و الإبداع و الإبتكار و رسم و تشكيل المشهديّات السّاحرة...

 

تمخّض القرن الثّامن عشر الميلادي في لبنان عن عدد من المصوّرين و الفنّانين التّشكيليين الذين برزوا في أعمالهم و نتاجاتهم الفنّيّة، فمنهم من حالفهم الحظّ و حفظوا تاريخهم الفنّي بالتّوثيق و التّدوين فوصل إلينا، و آخرون لم يُؤرّخ لهم و دُفنت أعمالهم معهم و غدت مجهولة في عالم آخر، و السّبب هو النّقص التّدويني على مستوى التّراجم و الأسماء في القرن الثّامن عشر و ما قبله...

 

و نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض أبرز الأسماء التي تركت أعمالا في القرن الثّامن عشر و منهم: فرنسيس الكفاعي، إبراهيم كرباج، بطرس قبرص، أسطفان ضوّ، يوحنّا الأرمني، نسطور مدلج، منصور كامل، يوسف صقر، موسى ديب... و آخرون لم نهتدِ لهم و لأعمالهم بسبب الضّياع و التّلف...

 

نشطت حركة الرّوابط بين لبنان و الغرب الأوروبّي، و قدِم إلى لبنان العديد من الفنّانين التّشكيليين المستشرقين، و منهم الإستشراقي البريطاني بارتلت الذي قام برسم و تصوير و تشكيل معالم و مشهديّات السّاحل اللبناني... فتبلورت معالم الفنّ التّشكيلي اللبناني في أرحبة سنوات القرن التّاسع عشر الميلادي عند رعيل من الفنّانين التّشكيليين و الرّسّامين اللبنانيين، الذين درسوا فنون التّصوير و مباديء الرّسم و التّشكيل التّخطيطي لأسباب هندسيّة طوبوغرافيّة شاملة و تفصيليّة، بهدف إسداء خدمات معيّنة بحركة فعل الإستطلاع الميداني للجهات الرّسميّة... و قد تحوّل الكثير منهم، فردانيّة حميميّة للتّعبير الأصدق عن مشاعرهم و أحسيسهم، إلى ممارسة فعل التّصوير المشهدي و البّانورامي و الرّسم الفنّي و الهندسي و التّشكيل الخشبي و المعدني و الصّخري، كفنّانين رفلت أعينهم لجمال و سحر الطّبيعة اللبنانيّة من جهة و من جهة أخرى المساهمة في تأريخ أبرز الأحداث التي حفل بها الواقع اللبناني السّاحلي في ذلك الزّمن... و هو ما أعطى نتاجهم الفنّي و التّشكيلي سمة مدرسة المشهد البحري في لبنان, متأثّرين بالمدرسة الإستشراقيّة في أواخر القرن التّاسع عشر الميلادي و التي تمثّلت بالفنّان التّشكيلي الإستشراقي البريطاني في العام 1834 للميلاد الذي أقام في مدينة بيروت...

 

حفل القرن التّاسع عشر الميلادي في لبنان بحركة فنّيّة تشكيليّة ناشطة، برز فيها العديد من أسماء الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين في تلك المرحلة، و نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: كنعان ديب، عبده بطرس المصوّر، شكري المصوّر، إبراهيم سربيه، نجيب قيقانو، نجيب يوسف شكري، إبراهيم نجّار، حسن التّنّير، نجيب بخعازي، رئيف شدودي، علي الجمّال، نجيب فيّاض، عبد الله مطر، سعيد مرعي، سليم حدّاد و فنّان من آل دمشقيّة، هذا إضافة للعديد من الذين عاشوا و أنتجوا أعمالا فنّيّة تشكيليّة مميّزة و لكنّهم ما زالوا في خافيات الظّلّ و بقيت أعمالهم مجهولة نتيجة عدم حفظ تراثهم توثيقيّا و بالتّالي التّلف و الضّياع و النّسيان...

 

إذن نستطيع ممّا أدرجناه أعلاه إستنتاج خلاصة القول الأرجح، أنّ معالم المرحلة الأولى لإنطلاقة الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة الفعليّة و التي عُرفت توثيقيّا، كانت ما بين أواسط القرن التّاسع عشر الميلادي و الرّبع الأوّل من القرن العشرين الميلادي، و فيها برزت الصّور و الرّسوم الكنسيّة و التّشكيلات و البورتريهات و الأيقونات و المواضيع الفولكلوريّة و القرويّة و الرّيفيّة... و يُعتبر منتصف القرن التّاسع عشر بدء ولادة النّهضة للفنّ التّشكيلي اللبناني و التي أتت ولادتها من رحم سلسلة نشاطات فنّيّة سابقة و إن حملت الطّابع الفردي في مرحليّتها الزّمنيّة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق