الجمعة، 20 نوفمبر 2015

بطرس فرحات
نحات فطري مبدع... أعماله تجمع بين الواقعيّة و الرّمزيّة...
 بقلم: حسين أحمد سليم
مقدّمة:
منذ الصِّغر تلمّس بطرس فرحات ومضات موهبة فنّيّة نحتيّة تسكن كينونته الإنسانيّة، فأضمر في وِجدانه وعدا صادقا مع الحجر في بلدته، تنامى في محاكاة حلم خياليّ إفتراضيّ يُراوده، فإستهلّ مسيرة حياته الفنّيّة مُتعلّما على نفسه، يخوض حركات أفعال التّجريب النّحتي في صِراع مع الحجر، يتحدّى صلابة الصّخر في بلدة جاج الجبيليّة، ليُحقّق حلما فنّيّا يتراءى له في مدى البعد، يبني رؤى غده الواعد في عناده الجبليّ، مُتمسّكا بالثّبات في الصِّراع على مشاكسة صلادة الحجر، حتّى ينوء و يتلوّى مِطواعا و لطافة و نعومة، تتبارى في سباقها و الأنسام العليلة التي تُدغدغ كلّ الأشياء في بلدته، فتنعشها بالحياة إستمرارا آخر، و الحجر الجاجيّ الجبلي الطّبيعيّ يتنهّد و يتثاءب، ليغدو تحت مطرقة و إزميل بطرس فرحات مغناة منحوتة متناسقة الإيقاع...
الأعمال:
إنتشرت أعمال الفنّان النّحّات بطرس فرحات في بلدته جاج في أعالي قضاء جبيل بلبنان، المنحوتات الفرحاتيّة الفنّيّة الجميلة و المتناسقة، التي حوّلت بلدته الرّيفيّة إلى متحف يتماهى في الهواء الطّلق، حيث تتموسق منحوتاته إبداعا بين الأشجار الوارفة الظّلال، و يتوزّع الكثير من أعماله في معظم شوارعها، و هي تشكيل فنّيّ نحتيّ من التّماثيل الكبيرة إلى اللوحات الفنّيّة الحجريّة، فالأشكال الرّمزيّة و المعبّرة و المنحوتات الصّغيرة الحجم...
و تزيّن أعمال بطرس فرحات و منحوتاته العديد من ساحات الكنائس و البلدات اللبنانيّة... و من أبرز أعماله، ثلاثة تماثيل أمام كنيسة سيّدة النّجاة في بلدة جاج، و تمثال قلب يسوع في بلدة حردين الشّماليّة، و تمثال القدّيس شربل في جاج، حيث أعلن المكان مزاراً عامّاً...
كما أنّ أعماله إنتشرت في عدد لا حصر له من أرجاء العالم، خاصّة في البلدات التي توجد فيها جاليات لبنانيّة، كدولة فنزويلاّ، مثلا، حيث يشهد مذبح كنيسة مار شربل لفنّه... و التي تحوي تماثيل دينيّة و زخارف و بوّابات لمداخل بعض القصور و الفِلل, كما أنّ له بعض الأعمال في مقاطعة أونتاريوا بكندا، و كذلك في بعض الدّول العربيّة، خاصّة في الأردن و الكويت و الإمارات...
و لبنان، موطنه الأساس، يحتضن القسم الأكبر من أعماله, المنتشرة في أكثر من منطقة و بلدة و دوّار و طريق عام و معلم سياحي أو ديني أو وطني...
هذا، و لا تخلو قرية في منطقته و المناطق المحيطة به، من منحوتة تعود إليه، خاصّة على مداخل القصور، حيث يتميّز فرحات بإبتكاره لأشكال و أنواع مختلفة من البوّابات الحجريّة الفنّيّة و المميّزة...
الهديّة:
في لفتة معهودة، من قبل فنّاني لبنان، في محاولة لتقدير جهود المؤسّسة العسكريّة، كان الفنّان بطرس فرحات واحداً من الذين أحبّوا أن يذكروا المؤسّسة العسكريّة العريقة، بشيء من الإمتنان و التّقدير و الشّكر و الوفاء... فقدّم للمؤسّسة العسكريّة واحدةً من أجمل أعماله الفنّيّة، و أهدى هذا العمل إلى كلّ جندي لبناني على أرض الوطن... و التّمثال يُزيّن مدخل ثكنة مغاوير البحر في بلدة عمشيت... و فكرة المنحوتة الأساسية تدور حول حمل الجيش رايات الشّرف و التّضحية و الوفاء، متجسّدة بشجرة الأرز و أكاليل الغار و سنابل القمح... و قد حاول الفنّان من خلال أعمدة ظاهرة في المنحوتة، تجسيد فكرة أنّ الجيش يشكّل العمود الفقري للوطن، و أنّه بالتّالي رمز صلابة الوطن و قوّته... و قد تعمّد الفنّان إبقاء الأعمدة من دون حدود، و ذلك ليبرهن أنّه لا حدود لشرف المؤسّسة العسكريّة و وفائها و تضحياتها. و أمّا قاعدة الشّجرة فتمثّل الشّعب الذي يحتضن الجيش و يلتفّ حوله و يتكاتف معه في ظروف المحن كما في حالات الإطمئنان...
طول المنحوتة خمسة أمتار و هي من صخر التستا، و قد قدّمت الصّخرة مجاناً للفنّان بطرس فرحات، عندما علم أنّ العمل سيقدّم للجيش اللبناني، و ذلك عربون إمتنان و تقدير لهذه المؤسّسة...
و إعتبر الفنّان فرحات أنّ أقلّ واجب تّجاه مؤسّسة أثبتت منذ تأسيسها أنّها أهلٌ لإحترام شعبها و إعتزازه، هو منحها و تكريمها بأعمال تعكس إفتخار اللبنانيين بجيشهم و الأمل الذي يعلّقه هؤلاء عليها...
الأسلوب:
يجمع الفنّان النّحّات بطرس فرحات في أعماله النّحتيّة، بين عدّة أساليب من النّحت، فبعض أعماله تتبّع الأسلوب التّقليدي في النّحت، و بعضها الآخر ذو أسلوب رمزي، و لعلّ أكثر ما تفرّد به النّحّات فرحات هو اللوحات الفنّيّة الحجريّة، و التي تُعد روعة بجمالها و بتعبيرها، و التي تعكس رسالة حضاريّة ثقافيّة معيّنة، يريد توصيلها إلى المجتمع المحلّي و الإقليمي و العالمي من ربوع بلدته جاج اللبنانيّة... و بطرس فرحات في منحوتاته كأنّه يكتب سيرة حياته التي تربطه فيها المشاهد الواقعيّة و الخياليّة، فنماذج أعماله تفوح بالهدوء و الإنسانيّة و الحنان، و منها العنيف الذي يرتكز على القساوة و الشّراسة الواضحة و المبدعة...
الرّؤية:
كلّ إنسان له نسيج بصمته التي تُميّزه عن غيره، و هكذا لكلّ قطعة حجريّة و صخريّة نسيج شخصيّتها المنفردة، التي يحاول الفنّان قراءتها و يسعى إلى توظيفيها لإظهار العمل النّحتي و جماليته... و العمل في الصّخر متعة، فهو حوار و تفاعل دائمان لا ينتهيان حتّى بإنتهاء المنحوتة أو العمل... فأعمال النّحّات بطرس فرحات إمتدّت منذ الصّغر في محاكاتها للحجارة و الصّخور، و أثمرت الكثير من التّماثيل و المنحوتات الفنّيّة الصّخريّة المميّزة جدّاً... و يغلب على منحوتاته طابع الواقعيّة، من التّماثيل المتوسّطة و الكبيرة الحجم و بعضها الآخر طابعه رمزي، بحيث أنّ كلّ شخص أو متلقي، يرى في هذا النّوع من المنحوتات، صورة معيّنة تختلف ربّما عن رؤية متلقٍ آخر، و بالتّالي فإنّ تفسيراتها تختلف... و مهما كانت نتيجة الرّؤية، فإنّ الفنّان النّحّات بطرس فرحات يبقى هو الذي يكتنز في بواطن تفكّره بأسرار كلّ منحوتة وُلِدت بين يديه... و هو ما يشهد له من خلال العديد من المواضيع التى تناولها خلال مسيرته الفنّيّة، منها الثّنائيّات، و منحوتات فينيقيّة، و أعمال كنسيّة، و أعمال وطنيّة...
المتحف:
متحف الفنّان بطرس فرحات في بلدته جاج الجبيليّة، يتألف من قسمين خارجي و داخلي. يضمّ ما يربو على الماية منحوتة، يتراوح مقياسها الرّأسي من نصف المتر إلى ثلاثة أمتار... و يستخدم الفنّان فرحات أنواع عديدة من الصّخر الوطني و غير الوطني.... و يعود تاريخ المتحف إلى سنة 1991 للميلاد، حيث يضمّ عدّة مواضيع فنّيّة نحتيّة، أبرزها الثّنائيات، المرأة، الفينيقيين و الثّقافة العامّة...
 المعارض:
تابع النّحات فرحات دورات رسم عديدة للفنّان حسن يتيم في المعهد الثّقافي الرّوسي في بيروت، و كان لذلك أثر كبير في دفعه للمشاركته في عدّة ملتقيات فنّيّة للرّسم و النّحت، حيث كان له الحضور اللافت مشاركا في مدينة جبيل ثمّ في مدينة جونيه، حيث أطلق على عمله إسم «الثّنائيّة» و هي منحوتة تتماهى بالجمال و معروضة على طريق حارة صخر، بكركي...
و شارك الفنّان بطرس فرحات في الملتقى الفنّي في بلدة منيارة في محافظة عكّار بشمال لبنان، حيث إستمرّت أعمال الملتقى لمدّة نصف شهر، و ضمّ عدداً من النّحاتين و إطلق على عمله إسم «التّناغم» و هو عبارة عن منحوتة من الصّخر الوطني بلغ إرتفاعها ثلاث أمتار موضوعة في الحديقة العامّة الواقعة على المدخل الغربي لبلدة منيارة العكّارية شمال لبنان...
سنة 2005 أقام معرضا إفراديّا في بلدته جاج برعاية وزارة الثّقافة اللبنانيّة ضمّ حوالي 65 منحوتة يتراوح قياسها بين النّصف متر و ثلاثة أمتار و كان حجرا أساسيّا و مدماكا في حياته و تحديد وجهة و مسار مستقبله...
و أقام أيضا معرضاً إفراديّاً في الهواء الطّلق في بلدته جاج في صيف 2009 للميلاد، و ضمّ أكثر من 90 منحوتة، و هي معروضة بصورة دائمة في بلدته بقضاء جبيل...
إلى هذا، فقد شارك الفنّان فرحات عددا من قيادات قوى الأمن الدّاخلي في لبنان في إزاحة السّتار عن منحوتة من أعماله تحمل إسم الملازم أوّل الشّهيد أنطوان عبيد في بلدة حلبا في شمال لبنان...
 التّنويهات:
الفنّان فرحات، الذي بدأ مشواره الفنّي مع الحجر في الثّمانينات من القرن السّابق، حصل على شهادات تقدير من قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان (قبل أن يصبح رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة) و من وزارة الثّقافة في لبنان، و من بلديات جبيل و جونيه و جاج، و من نادي بيبلوس و وزارة الثّقافة اللبنانيّة و جهات ثقافيّة عديدة...
الختام:
الفنّان النّحّات الجبيلي اللبناني من بلدة جاج، يعيش واقعه التّشكيلي الفنّي بزخم، عبر رفده لوحته النّحتيّة معطياتها الفنّيّة الإبداعيّة، من خلال قدراته الفكريّة القائمة أسس حركة فعل المعادلة التّشكيليّة بين الرّؤية الفنّيّة و نتاجات التّنفيذ... و الفنّان النّحّات بطرس فرحات، له مدرسته النّحتيّة الخاصّة و التي أرسى قواعدها على قاعدة التّجسيد التّوازني بين الإفتراض و الواقع، لتعكس التّفسير التّراثي و الفكري... و هو عندما يقوم بأعمال النّحت، يُعبّر عن مكنوناته النّفسيّة، و يرسم بمطرقته و إزميله مصداقيّة مشاعره و إحساسه...
 
علي عيسى
فنّان تراثي فريد... أبدع رغم فقدانه حاسّة السّمع... قراءات في مساراته التّشكيليّة...

بقلم: حسين أحمد سليم

يتوقّف الباحث الفنّي، مُتمهّلا في جرأة الإقدام على سبر غور من وهبه الله، نعمة الإبداع و الخلق، فنّاَ روحيّا حضاريّا إنسانيّا راقيا، و هو المخلوق بأمر الله عدالة و حكمة و رحمة و مودّة. و يحمل ذاته الفكريّ على أن يتعمّق في التّفكّر مُعقلنا قلبه على ضبط إيقاعاته و ترانيمه، لتأتي في سياقها الموضوعيّ، و مُقلبنا عقله على اللطافة في جرأة إصدار أحكامه، لتأتي عادلة دون نقصان أو مظلوميّة. هذا، و لتأتي كلّ النّتائج تصبُّ في مجرى سلسبيلها القدريّ، المتموسق ترنّما بالحقيقة المجلوّة، دون أن تتعثّر العروس المُطهّرة في إنسياباتها بين الرّؤى الإفتراضيّة، و التي قد تكون سببا في إثارة بعض الغباريات و التّساؤلات حولها...
صاحب الأنامل الحانية الدّفء، تمسيد حنين لمشق رسم الخطّ، و تغميسا له في مداد أسود أو أزرق أو أحمر أو أخضر، حبر في دواة الحبّ و العشق، الحبر ممزوج بالأصماغ و الأصباغ، ليلين لطافة بين خيوط ناعمة، خلاصة عظمة خلق الله من نسيج حرير دود القزّ، يخنق كينونته كيّ ننعم بخيوط حريره...
خطّاط أجاد في إستخدام المشق و الرّيشة، فجسّد بخطوطه هويّته الفنّيّة، بإمتلاكه ناصية فنون الخطّ و التّشكيل الخطوطي، لمحارف منظومة أبجديّة الضّاد. و رسّام مُجلٍّ في تشكيلاته، سبر تقنيّة فنون الرّسم و معاييره، فحاز الرّيادة في فنون النّقطة و جريانها وفق التّحابب و التّعاشق، و توالد الخطوط على أنواعها و الأشكال وفق مقاييسها، و المشهديّات من بؤرة قيم منظورها. و نحّات له ميزته و خصوصيّته، و له سمته الخاصّة في رحلته الإبداعيّة، و التي تشكّلت مع مشهديّات منمنماته و كتل منحوتاته، التي بها طبع هويّته، لتتماذج و تتكامل في تصميم أزياء عرائسه الرّافلة بحكمة المضمون و جمال المظهر...
علي عيسى...
الفنّان الوارف، الذي خطّ لنفسه مسارا خاصّا، مُتّصلا بمسار الخطّ المحمّدي، المستمرّ الوجود عبر تعاقب الأحقاب و الأدوار و الأكوار و الأزمان، بشيوعيّة مستنارة الأضواء من هالات نور السّماوات و الأرض، ترسم إنتشارها بحكمة العليّ، عليّ العليّ، العليُّ علي، لتبقى مسارا قويما و مستيقيما، مُوصلا إلى الحقيقة العظمى, حيث يُعرف الله و يُوحّد وعيا باطنيّا و عرفانا ذاتيّا، و تبقى تتقّد جذوة الإيمان بالمفهوم الرّوحيّ لثورة الإيمان على الظّلم، الحسينيّة البقاء...
فنّان ليس كما غيره من الفنّانين التّقليديين، إمتطى صهوة العصاميّة في ذاتيّته، و إعتلى أجنحة الإمتداد على وِسع المدى، فكان نموذجا آخر، تفرّد في منهجة فنونه رسمَا و خطّا و نحتا و تأليفا، و راح واثقا من نفسه بإيمانه الرّوحيّ بذكر الله تعال، يُترجم ما عجز عنه من هم أمثاله، هادفا تحقيق مرضاة العليّ في كلّ إبداعاته، لتصل إعلاما هادفا لجميع من شاء وعي الحقيقة، مُترجما علاقته و حبّه و فهمه لمسارات آل البيت النّبوي المُحمّديّ، مُبتكرا و مُبدعا في أعماله الفنّيّة التّشكيليّة، نقشًا و نمنمةً و نحتاً و رسمًا و خطّا، مُستخدما كلّ قدراته الفنّيّة، ساكبا كلّ خبراته العمليّة، ممّا تراكم لدى مخزونه الإنسانيّ، من تقنيّات و حرفيّات و إجراءات و خبرات و معارف، إضافة للمخزون الثّقافي الإسلامي الذي تكتنز به ذاكرته، ليصل لصناعة لوحة بجودة عالية و تقنيّة لافتة، و على مستوى حضاري عالمي، تتجلّى في مكنونها، الأنوار السّاطعة التي تتفتّق من شعشعانيّة قداسة آيات الذّكر الحكيم في القرآن الكريم، و التي تتهالل في أنوار جواهر لحكم و كلمات سيّد البشريّة محمّد، حيث جسّدها في جواهر مخطوطة لمحمّد، وصولا ليتبارك قلما و ريشة برسم و تشكيل حِكم لأمير الكلام عليّ، و ليس إنتهاء بتسابيح لفاطمة الزّهراء و نداءات الإمام الحسين و إحتجاجات العقيلة زينب بنت علي. و همّه الأوحد تقديم كلمات القداسة و الطّهارة في لوحات فنّيّة مُتكاملة التّشكيل لافتة البصائر قبل الأبصار...
بارقة ومضة فنّيّة ذهنيّة عابرة، لمعت في وجدان كينونة علي عيسى، و هو طفل على مقاعد الدّراسة، منذ ذلك الحين سعى جاهدا على تنمية ما تناهى وامضا لذهنيّته، فإلتحق بمعهد الفنون و التّجميل في بيروت في العام 1977 للميلاد. و درس أصول و فنون الخطّ في محترف الخطّاط البيروتي المعروف، محمود بعينو، و مارس الخطّ سنوات عديدة حتّى تمكّن من تجويده وفق ضوابطه، فدخل بعدها معترك العمل الصّحقي، ليمضي سنوات منها في بيروت في شركة تهامة للإعلان، ثمّ لينتقل إلى فرنسا حيث شغل فيها منصبا رفيع المستوى. و هناك، غدا على إحتكاك مباشر مع أنماط الفنون المختلفة و المتنوّعة، حيث الفنون التّشكيليّة تمارس من قبل الفنّانين على الطّرقات، كون النّاس هناك ميّالة للجمال، و العين الفرنسيّة ذوّاقة للفنون...
أتاح وجود علي عيسى في فرنسا له الفرصة المهمّة، للإنفتاح الواسع على أنماط الفنون المختلفة الألوان و الأشكال، و الإحتكاك المباشر بالنّاس المُحبّة للفنون. و في فرنسا درس تقنيّات الألوان و حرفيّات المخطوطات. و قام بإجراء دراسة ميدانيّة لمتحف اللوفر الفرنسي الشّهير. و له رؤى خاصّة حول مفهوم بعض المدارس الفنّيّة التّشكيليّة المنتشرة، و منها الفنّ التّشكيلي التّكعيبي، المنسوب للفنّان العالمي بيكاسّو. بحيث يعتبر أنّ التّكعيبيّة هي مسخ للفنّ و تشويه للحقيقة. فيما أصحاب الفنّ التّشكيلي التّجريدي، يُحاولون الهروب من الواقع بتجريدهم للأمور من الحقيقة الواقعيّة. و نظرته لمتحف اللوفر الفرنسي تتلخّص، بأنّه غنيّ و واقعيّ بمحتوياته و لكن واقعيّة محتويات اللوفر تنقصها الهدفيّة...
لدى إقامته في فرنسا، إعتمد النّهج العملي، و إفتتح علي عيسى، محترف آل البيت في العام 1993 للميلاد، لنقل الواقع بمواصفات عظمته و تنفيذ إستراتيجيّة هادفة، بنقل ثقافة أهل البيت إلى كلّ البشريّة، بوضع هذه الثّقافة النّقيّة الرّاقية على لائحة الثّقافات العالميّة الرّاقية، كفكر و فنّ...
بداياته في محترفه الفرنسيّ كانت تشكو من الصّعوبات، و لكن محترفه كان الخطوة الأولى نحو بلورة فنّ المخطوطات. بحيث شاء زرع واقع إسلامي أصيل في خضمّ التّجريد و الألوان. و إحياء الفنون الإسلاميّة الأصيلة إلى جانب إحياء الفكر الإسلامي الأصيل، المرتبط بالنّبي محمّد و أهل بيته. و هو ما حمله معه لدى عودته إلى لبنان، ليستكمل ما بدأ به، بإفتتاح محترف له في حارة حريك بالضّاحية الجنوبيّة...
هذا، و يعمل علي عيسى ليل نهار بكلّ ما أوتي من قوّة فكريّة و فنّيّة، لتقديم لوحة لائقة بحكم النّبيّ و الإمام عليّ، بحيث تُمثّل كلّ حكمة لوحة بحدّ ذاتها، رابطا الفكر بالفنّ، واضعا الحكمة في إطار جميل جذّاب للعين العالميّة و كذلك العقل العالمي. مُجسّدا أعماله في تقنيّات لافتة، مُترجما تفاصيل البيت المحمّدي في صور و مشهديّات، تكاد تنطق بما تحمل من معتركات السّنين و قهر الماضي، بجهل الجاهلين و عناد المعاندين...
أضاف علي عيسى على فنون محترفه عنصر التّرجمة، لإدراكه أهمّيّة اللغات في إجتذاب العقل الغربي للفنّ و القيم الإنسانيّة الرّاقية. مُعتمدا على اللغتين الفرنسيّة و الإنكليزيّة، و اللتان كانتا النّقطة الفاصلة في تطوير محترفه و نقله إلى العالميّة. ثمّ عمل على إضافة اللغة اليابانيّة، لما فيها من الرّسم الفنّي ما يجعلها قريبة من فنون الزّخرفة. ممّا يجعل محترف علي عيسى، من المحترفات العالميّة، بمزجه الفنّي بين كافّة الأنماط الفنّيّة الكلاسّكيّة و الحديثة. خدمة لعمل فنّي هادف و له قيمته في تحقيق إستراتجيّة هادفة لنشر ثقافة أهل بيت النّبوّة...
عمل علي عيسى على كتابة القرآن الكريم بالخطّ الكوفي، المنسوب للإمام عليّ، و ترجم عدّة إصدارات له، جواهر مخطوطة حكم محمّد، و أمير الكلام، حكم علي، إلى اللغات الأجنبيّة الثّلاث. و عمل على ترجمة كتاب، حكم المسيح إلى اليابانيّة بعدما سبق و قدمّه باللغة الفرنسيّة...
علي عيسى فنّان تشكيلي مُبدع و خلاّق بالرّغم من فقدانه لسمعه، بحيث ترافقه قرينته في ترجمة ذبذبات أصوات زائريه و محاوريه كتابة على الورق ليوافيهم بالأجوبة اللازمة...

فاطمة محمّد تامر غدّار خليفة
قصائدها ترانيم حياة و لوحاتها موسقات ألوان
أنسنت قلمها و ريشتها بأنسنتها
بقلم: حسين أحمد سليم
تأنسن القلم بين دفء أناملها الحانية الأنسنة دفئا، فراح يرتشف من قلبِ دُواتها مداد حبّ و عشق، و يترنّم جذلا بمحارف متعاشقة، وحيا و إستلهاما من منظومة أبجديّة الضّاد. لتتوالد من رحم وجدانها، كلمات متحاببة فيما بينها و متكاملة في نسيجها، تتماهى في تكوين حركة من نوع آخر في المدى، ترسم الرّؤى الإفتراضيّة فعل خلق و إبداع. لتتشكّل منها خواطر شعر لطيفة الإيقاعات على سيّالات الأوزان الفراهيديّة، تصنع في تماذجها و تآنسها و تكاملها، طمأنة قصيدة تتأنسن بها معالم الحياة. فتغدو تتكوكب في ومضات إشراقيّة، تنبض بالحبّ الأقدس و العشق الأطهر، تُلوّن المسارات إستنارة في معاناة متاهات الإستمرار ...
سيّالات شاكرتها الأثيريّة، حملتها على صهواتها عبر الإمتدادات الإنسانيّة، ترود بها عالم الخلق و الإبداع و الإبتكار تشكيلا آخر. تُحاكي الجمال و مشهديّات السّحر في طبيعة الوطن، تعيش رؤاها عند كتف الغروب في غازيّتها الجنوبيّة. و الشّمس ترتحل خلف خطّ الأفق و تماس مياه البحر، راسمة لوحة الشّفق، التّجريديّة الألوان، السّورياليّة الأشكال. فتستلّ الفاطم ريشتها الولهى الشّعيرات، تعزف على رؤوسها موسقات الألوان، و هي ترسم على صفحة ناصعة البياض، حزم نقاط و خطوط و أشكال و ألوان، تُشرق من سيّالاتها الرّوح الإنسانيّة، تتجسّد في إنطباعيّات الفنّانة التّشكيليّة، فاطمة محمّد تامر غدّار خليفة تتماهى في رحاب بلدتها، توزّع حنينها و أنسنتها إلى كلّ أنحاء لبنان...
وُلِدت فيالسّادس من شهر تمّوز للعام 1949 للميلاد، في كنف حنان أسرتها، بمدينة بيروت عاصمة الوطن، و في رحابها ترتعرعت، و تلقّت دراستها و تعليمها منذ بدايات طفولتها و حتّى شبابها، حضانة و تمهيدا مرورا بالمراحل التي كانت معروفة في زمانها، الإبتدائيّة و المتوسّطة و الثّانويّة، و حتّى أبواب الجامعة في مدرسة العائلة المقدّسة المارونيّة في أشرفيّة بيروت.
في بداية السّبعينات من القرن السّالف، و تحديدا في العام 1970 للميلاد، تفرّغت للرّسم، تجاوبا مع موهبتها الفنّيّة، التي وُلِدت معها و سكنت كلّ خفاياها و طواياها و حواسّها، فأحبّت موهبتها و عايشتها منذ كانت طفلة بعمر السّنوات الخمس.
ولجت عالم الرّسم و التّشكيل بالألوان، و خاضت تجربتها الفنّيّة بإندفاع و ثقة، فأبدعت بما تراءى لخيالها و رسمت. ثمّ أقامت لها عِدّة معارض في مدينة بيروت، بعد أن عمّقت تجربتها الفنّيّة بالثّقافة و الخبرة. ممّا جعلها تسبر أغوار و أبعاد الأعمال الفنّيّة، و تنظر إلى الأشياء من مكوّناتها بعين النّاقد الفنّي العارف بالأسرار. إكتنزت على ذاتها ثقافة فنّيّة واسعة، و تعلّمت على نفسها التّقنيّات الفنّيّة و أساليبها. و راحت تُعبّر عن مُلكتها الفنّيّة، راسمة شخصيّتها، تارة على الأسلبة الكلاّسيكيّة، و أخرى معتمدة المذهب الفنّي الرّمزي الخيالي، مُترجمة نبل أحاسيسها و تجسيد حدسها في تجلّيات رؤيتها الفنّيّة. بحيث جذبت أعمالها الفنّيّة النّقّاد الذين تابعوا مسيرتها الفنّيّة، فأثنى من زار معارضها عبر مراحلها، و كتب أرباب النّقد و الإعلام الثّقافي عن أعمالها الفنّيّة بإيجابيّة، مُؤكّدين على أصالة الموهبةّ في كينونتها.
تزوّجت من عِزّت خليفة في العام 1973 للميلاد، و سكنت مدينة صيدا لسنوات أربع، تفرّغت فيها للعناية بأسرتها و الإهتمام بقرينها و تربية أولادها. إلاّ أنّها كانت تتحيّن كلّ الظّروف المؤاتية لها، لتوّظف الوقت من حين لآخر، كي تتزوّد بالثّقافة الفنّيّة عن طريق المطالعة، واضعة نصب عينيها تحقيق رغبتها الفنّيّة، دون أن يؤسّر ذلك على حياتها الأسريّة. تأقلمت مع مرحلتها تطبيقا فنّيّا و تشكيلا إبداعيّا، فرسمت في ذلك الحين عِدّة لوحات عن الطّفولة و الأمومة، تجسيدا لمرحلة حياتها الزّوجيّة و قداسة أمومتها و حضانة مواليدها.
درءا للمرحلة الصّعبة و القاسية، التي سادت غالبيّة المناطق اللبنانيّة في أواسط السّبعينات من القرن السّالف, سافرت و أسرتها إلى مصر العربيّة، و مكثت فيها أشهر ستّة، و من ثمّ غادرتها إلى الغابون في القارّة الأفريقيّة.
آلمها البعد كثيرا عن الأهل و الأقارب و الأصدقاء و الوطن، فإستبدلت الرّيشة بالقلم، لتجود بمجموعة من القصائد الشّيّقة، التي تنضح حنين أمومة، عبّرت في سبك كلماتها الحانية، عمّا يتفاعل في مكنوناتها و طواياها، و عمّا يجول في خاطرها و وجدانها، و عمّات تعاني من قهر و عذاب و حنين للعودة بحرارة إلى كنف و حضن الوطن الأمّ لبنان. و في تلك الحقبة الزّمنيّة، أبدعت في رسم عِدّة لوحات زيتيّة، عبّرت فيها عن واقع المرأة الجنوبيّة المرير، تحت وطأة الإجتياح الإسرائيلي و إحتلال مساحة و قرى جنوبيّة عِدّة من قرى جبل عامل في جنوب لبنان.
غالبتها حرارة الحنين الصّادق للوطن، فحملت كينونتها و أسرتها و ما شاءت حمله، و عادت بلهفة الإشتياق و الفرج إلى وطنها لبنان في العام 1978 للميلاد. و سكنت في بلدة الغازيّة السّاحليّة جنوب مدينة صيدا و جارتها، حيث مسقط رأس والديها و أخوتها و زوجها, لِتستقرّ في الأرض الطّيّبة، التّي أحبّت ترابها و أشجارها و أهلها و شاطئها و بحرها.
زمن رجوعها لوطنها من بلاد الإغتراب، لم يكن الوضع العام بحالة فنّيّة و ثقافيّة و فكريّة مُشجّعة، كما كان في بداية السّبعينات. ممّا دفع بعدد كبير من المُفكّرين و الفنّانين المُبدعين لركوب راحلات الهجرة إلى الخارج. إستغلّت ذلك الجمود الفنّي و الثّقافي في تلك المرحلة القاهرة، فأسّست في بلدتها بالغازيّة أهمّ دار للأزياء في العام 1986 للميلاد، و توجّهت لتصاميم فساتين الأعراس و السّهرات، و كانت أوّل سيّدة جنوبيّة، تُقيم معارض للأزياء في الجنوب، كما كانت أوّل سيّدة جنوبيّة تُقيم معارض فنّيّة في مدينة بيروت. و لم يمنعها عملها هذا في إبداع الأزياء، من زيارة أهمّ المتاحف الفنّيّة في لندن و إيطاليا و فرنسا و روسيا و القاهرة و أستراليا و تركيّا و الإتّحاد السّوفياتّي و غيرها من الدّول العربيةّ. سعيا وراء إثراء ثقافتها الفنّيّة، التي لم تخبو يوما في كينونتها، و تزويدا لها صقلا في إبداعاتها و معرفة بما خفي عنها و وعيا بما شاءت لنفسها في عالمها الفنّي، من خلال تلك الزّيارات السّياحيّة، المُحبّبة إلى روحها الهائمة في عالم الفنّ و إمتدادات التّشكيل.
نجحت فاطمة غدّار خليفة في مجال مهنتها عالم الأزياء، و حققت تقدّما في تصاميمها و معارضها لهذه الإبداعات من شتّى التّشكيلات. إلاّ أنّ عالم الفنّ بقي هاجسها الأوّل و الأهمّ، يُراودها أيّنما ذهبت و حلّت، و بقي المُحرّك الفعّال لأحاسيسها و مفاهيمها و قناعاتها و ميولها. فعادت لممارسة موهبتها التّوأمم لها منذ طفولتها، لِتُبدع مجموعة جديدة مميّزة من اللوحات الزّيّتيّة، و تُشارك بها في بعض المعارض. و في نفس المرحلة الفنّيّة تلك، أصدرت ديوانا من الشّعر يحمل إسم: " في ظلال الرّوح "، عبّرت من خلال نصوصه الشّعريّة عن مشاعرها في رحلة عمرها المديد.
أحيت الشّاعرة الفنّانة التّشكيليّة فاطمة غدّار خليفة، عِدّة أمسيات شعريّة ناجحة و لافتة في لبنان، و كانت دارتها في بلدتها الغازيّة، مُلتقى العديد من الفنّانين و المُبدعين في مجالات الشّعر و الأدب و الرّسم و الموسيقى و الطّرب الأصيل. كرّمت بعضهم من كبار المبدعين في مجالاتهم الأدبيّة و الفكريّة و الفنّيّة و غيرها، و منهم الشّاعر الكبير جورج شكّور و الفنّان العالمي وجيه نحلة و آخرون...
إلى هذا لها عِدّة مقالات فنّيّة و أدبيّة و شعريّة في عدد من الصّحف و المجلاّت و الدّوريات، كما أجريت معها عِدّة مقابلات و حوارات شعريّة و فنّيّة، عبر وسائل الإعلام المكتوبة و المقروءة و المسموعة و المرئيّة. و لها عِدة مواقع رقميّة عنكبوتيّة متداولة عبر الشّبكة العالميّة للمعلومات، تنشر فيها بعض النّماذج من إبداعاتها الشّعريّة و خواطرها الأدبيّة و لوحاتها الفنّيّة. إضافة لربط إبداعاتها ببرمجيات تواصليّة معروفة و سائدة.
في لقائنا بها بدارتها في بلدتها بالغازيّة، كشفت لنا بحنين أمومتها و أنسنتها، عن تحضيراتها المستكملة، لنشر ديوانين شعريين لها، أحدهما باللهجة المحكيّة اللبنانيّة و الآخر بالعربيّة الفصحى، إلى جانب إقامة معرض فنّي جديد، و الدّعوة لملتقى ثقافي شامل، و ملتقى فنّي تشكيلي، إحياء لنشاطاتها التي ضغطت عليها الظّروف فجمّدتها لحين.
أقامت الشّاعرة الفنّانة فاطمة غدّار خليفة، عِدّة معارض فرديّة في بيروت، كان أهمّها في فتدق السّان جورج في العام 1971 للميلاد و آخر في صالة الفنّان العالمي مانوك في العام 1973 للميلاد. تمّ تكريمها بشهادات شكر و تقدير عديدة، من قبل بعض المؤسّسات و الجمعيات الفنّيّة، و نالت جائزة " إنسان بلا حدود ".
و نحن نقرأ بعض إبداعتها الفنّيّة، التي تتماهى على جدران غرف دارتها، و التي ما زالت تعالجها عبر مراحل في مطبخ محترفها، نرى بعدا آخر ماورائيّا في تشكيلاتها، تنقلنا إليه على صهوات رؤى إيمانها و إطمئنانها النّفسي.، فتتراءى لنا بعض ومضات من أطياف و هالات و سيّالات نورانيّة بيضاء، تشعّ من حيث بؤرة إرتكاز اللوحة التّصميميّة، كنقطة إشراقيّة, تتجلّى من خلالها عظمة إبداع الخالق في الكينونة. توحي لنا في وعينا الباطنيّ و عرفاننا الذّاتيّ، و ترسم لنا في بصيرتنا قبل بصرنا، ذلك الخيط الفضّيّ النّورانيّ، المنتصب بين الأرض و السّماء، فيه تعرج الأرواح المطمئنة بذكر الله. و نسمع صدى مموسقا في ألوانها، و نتلمّس لغة أخرى تنضح قيما راقية في لوحتها. و نتحسّس و نحن نُكحّل أعيننا، بغباريات كحل متعة النّظر بصرا و بصيرة بمشهديّاتها، تجتاحنا القشعريرة أمام سلطان إبداعاتها الفنّيّة. التي تعكس في جزيآتها و كلّيّاتها، حركات إنفعالات تاريخيّة، و تجسيد قيم حضاريّة إنسانيّة، إضافة لمواقف ذات أحاسيس حزينة، إنّما قريبة من شغاف القلب، ترتاح لها النّفس بعد ثورتها. و يتناهى للعقل المقلبن بالحبّ و للقلب المُعقلن بالعشق، أنّ لوحات فاطمة غدّار خليفة الفنّيّة، قصائد لونيّة رمزيّة إفتراضيّة، منظومة على بحور و عروض شعريّة خليليّة، لِتُعانق الواقع المُعاش. تحمل النّاظر في تفاصيل مشهديّاتها، و رغم حرارة ألوانها الطّاغية، إلى عالم الفرح و الإطمئنان و السّرور، المنشود من كلّ نفس مضطّربة في إنفعالاتها.